المقالات

لحماية أمننا الفكري

تحقيق الأمن الفكري مسؤولية مجتمعية ، وسأتحدث عن دور مكونين مهمين في المجتمع ، بعد تسليط الضوء على ظاهرة نفسية تلعب دورًا فاعلاً في تقويض الأمن الفكري ، وهي ظاهرة القابلية للاستهواء (الإيحاء).
ويقصد بها استعداد الفرد لتقبل الأفكار والمشاعر والممارسات دون مبررات منطقية لقبولها ، ودون أي تمحيصٍ أو نقدٍ موضوعي. وتتجسد هذه الظاهرة غالبًا في الأشخاص المفتقرين للتفكير الناقد ؛ والمفتقرين للمعايير المنطقية للحكم على الأشياء والموضوعات ؛ وذوي التفكير السطحي ؛ وذوي المسايرة اللاعقلانية .
وغالبًا يسهُل استهواؤهم لاعتناق أفكارٍ هدامة وسلوكياتٍ ضارة بالنفس وبالمجتمع ؛ كما يتم استهواؤهم لنشر الشائعات والضلالات المغرضة للنيل من قيم ومُثل ومكتسبات المجتمع إما بتشويهها أو بمحاولة إلغائها .
وأعود الآن للمكونين اللذين أزعم بفاعليتهما في الحد أو لمواجهة ظاهرة القابلية للاستهواء ، وهما الأسرة والمنابر العلمية الدينية ، وذلك لعظيم أثرهما في التنشئة والتطبيع الاجتماعي نتيجة ما يتمتعا به من قيمة اجتماعية ودينية رفيعة ، وبتفعيل دورهما لتنمية التفكير الناقد في شخصية الفرد لمواجهة الاستهواء اللاعقلاني ؛ يصبح الفرد قادرًا على اكتشاف وتمحيص الأسباب المنطقية لكافة احتمالات القبول والرفض الجزئي والكلي ؛ لأي فكرة أو سلوك .
وحتى تمارس الأسرة دورها المأمول لتنمية التفكير الناقد لدى أفرادها ، عليها أن تتبني أساليب تنمية التفكير الناقد ؛ ومنها أسلوب طرح موضوعات حياتية مختارة بعناية لمناقشتها داخل الأسرة ، واحترام وتشجيع الآراء الشخصية حيال موضوع النقاش ؛ ومع استمرار ذلك سيتحقق يقينًا لدى أفراد الأسرة ( أن الفهم المنطقي والنظرة العقلانية للموضوعات وللأشخاص يلزمهما تمحيص منطقي وعقلاني لكافة احتمالات التفكير والفهم الممكنة ، ولكافة البدائل المتاحة للحلول الناجعة ) وهذا الدور في حقيقته كان في السابق واجبًا بدهيًا للمسؤولية الوالدية ، وللأسف فقد تخلى عنه كل من يعاني اليوم مرارة عدم اقتناع أبنائه وبناته بالصواب في آرائه ، بعدما توجهت قناعاتهم نحو آراءٍ من خارج الأسرة.
أما دور المنابر العلمية الدينية سألخصه في شخصين اثنين وهما فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور خالد المصلح وفضيلة الشيخ صالح المغامسي ، فهذان الشيخان أزالا الفروق بين محاضرات الخاصة التفصيلية وبين لقاءات العامة الإجمالية ، لقناعتهما بأن ما لم تتحدث عنه في بيئة علمية رصينة ستتحدث عنه وسائل معرفية غير مأمونة علميًا ، ولذلك تجدهما في معرض الحديث عن مسائل الخلاف المسوّغ – تلك المستندة على فهم وتأويل النصوص غير الصريحة الصحيحة ، أو مسائل مقابلة وترجيح درجات تعدد النصوص الصحيحة الصريحة- أقول تجد عند حديثهما عن تلك المسائل يستعرضون أدلة كافة الآراء دون استثناء ؛ ثم يرجحون ما تبنوه منها دون المساس بالقيمة العلمية لبقية الآراء .
ومنهجية كهذه كفيلة بأن تؤدي إلى تطبيع الأفراد على التفكير العلمي بقبول الآراء الفقهية استنادًا على سلامة أدلتها من المخالف الراجح ، وكفيلة بتطبيع الأفراد على القبول بحتمية تنوع فهم العلماء لنصوص مسائل الخلاف المسوغ .
فإن اطردت هذه المنهجية لدى جميع المشايخ ؛ فلا شك أنه سيصعب استهواء الشباب نحو الآراء المرجوحة علميًا في مدركاتهم فضلا عن المضللة ؛ لأنه ربما خبروا أو تذكروا بأن هناك آراء أخرى معتبرة لها أدلتها التي تستوجب التثبت منها قبل تبني فكرة أي مسألة ، وللأمانة هناك كثير من المشايخ ينهج ذلك المنهج في مواطن قليلة ليست بوفرة استخدام الشيخين المصلح والمغامسي .
أما التخلي عن هذه المنهجية بحجة عدم التشويش على المتلقي العامي ؛ فالواقع التقني يؤكد خطورة سهولة الحصول على المعلومة في مظان غير آمنة ، كما أن التخلي عنها سيعيد حقيقة من شب على اختيارات شيخه فقط سيكون أكثر عرضة للوقوع في تقديس المستدل بدلاً عن الدليل ، وربما استمر ذلك حتى يصبح نمطاً شخصيًا مستغلاً بالثقة في الأشخاص أكثر من تدبر أدلتهم ؛ وهي المعاناة الكبرى لذوي القابلية للاستهواء نحو الأشخاص المؤثرين .

مقالات ذات صلة

‫5 تعليقات

  1. مقال جميل ورائع كعادتك يا أستاذنا الغالي لكن
    لا بد أن ننشر في عامة الناس ثقافة اختلاف الآراء الفقهية حتى لو التزم الشيخ بنشر رأي واحد ، فالشيوخ درجات في العلم ، لكن تربية الناس على تقبل الآراء الأخرى واحترامها أمر غاية في الأهمية ، وكذلك تعليمهم النقد البناء لأي رأي مهما صدر هذا الرأي من شيخ علامة ، فكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم ؛ حتى تذوب فكرة تقديس الأشخاص عن الأذهان .

  2. أنت على حق فيما ذهبت إليه – أستاذي الفاضل – .. الأمر الذي جرأ البعض بأن يصم مجتمعنا ب ( سهولة الانقياد ) دون بصيرة .
    موضوعك مميزا جدا ..أفكارك مترابطة .. كثر الله من أمثالك ..تمنيياتي لك بالتوفيق .. أنا ومتابعيك ..في إنتظار الأجمل . لك حبي وتقديري .

  3. أثابكم الله أستاذنا الفاضل
    موضوع هام جدا بل هو الأهم في ضوء ما نعيشه وخاصة المنابر العلمية الدينية لا بد أن تتبنى مثل هذه الآراء ..
    زادكم الله من فضله .

  4. بارك الله فيكم استاذ خالد
    مقال رصين ومتمكن حدد المشكلة و السبب وأطر للحل. واتفق مع ما تناوله الأخوين أعلاه من اهمية تناول الاختلاف المتبع للسنة دون التحيز لفردية الرأي وفرضه على الغير
    جزاكم الله خيرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى