منتدى القصة

يخلق من الشبه أربعين

حكاية
توقف بعد اجتيازه أول بوابة دخول لصالة المغادرة. داهمه تيار من الهواء البارد المُشبع ببرودة تذيب الحر المتراكم فوق الجسد..استسلم بانتشاء..للهواء البارد ما يشبه الرائحة الخاصة تبعث في الإنسان رعدة غريبة تسكن في الأعماق.

كانت صالة المطار الواسعة مكتظة بالناس المسافرين مثله..لا صوت حوله غير الأصوات المُنبعثة من الأجهزة التي تنادي بلغات مختلفة تدعو الركاب الذين أنهوا إجراءات سفرهم سرعة التوجه إلى بوابات السفر استعدادًا لصعودالطائرة..ولوحات ضوئية مختلفة تُشير إحداها إلى عدم التدخين، وأخرى تحمل كتابات وأسهمًا وأرقامًا ملونة تُشير إلى مكاتب خدمات للركاب ومنصات السفر..شجعته ابتسامة شاب أسمر أنيق، يبدو من ملابسه أنه من موظفي المطار لسؤاله عن كاونتر السفر إلى… كان الشاب مسرعًا..رد دون أن يتوقف رقم سبعة..أومأ برأسه بالفهم..تحسس الحقيبة الصغيرة التي بيده..شعر ببعض الدفء شجعه للتحرك نحو أول شباك واجهه في طريقه..أود السفر إلى …قالها بثقة مصطنعة للموظف القابع خلف الكاونتر..أشار الموظف بيده، وهو يقول شباك رقم سبعة..بعثر نظراته على جموع المسافرين أمام الكاونترات التي اصطف خلفها عدد من موظفي خدمات الركاب من الشباب والشابات..اتجه نحو الكاونتر رقم سبعة كانت تقف خلفه فتاة واسعة العينين منسدلة الشعر خلف الظهر..تبادلت معه كلمات مقتضبة، وأنهت إجراءات سفره في لحظات معدودة..وقالت له مبتسمة وهي تناوله بطاقة صعود الطائرة يبدو أنك جئت مبكرًا عن موعد سفرك..أمامك أكثر من ساعتين حتى يحين موعد الرحلة شكرها على حسن تعاملها، وشق طريقه بهدوء وسط جموع المسافرين الذين تكتظ بهم الممرات اتجه نحو أحد المقاهي المبثوثة في أركان الصالة بعد أن اشترى إحدى الصحف ليقرأها أثناء الانتظار..اتخذ لنفسه مقعدًا بعد أن طلب لنفسه كوبًا من القهوة التي أنعشته رائحتها الندية..خلع نظارته الطبيه، واستكان إلى ظهر الكرسي الذي يجلس عليه..أخذ نفسًا عميقًا وراح يتأمل من مجلسه أحوال الناس من حوله، ويسمع من لغو أحاديثهم صدى معاناة السفر.. مسح نظارته الطبية ثم وضعها على عينيه بعناية اتكأ بيده على حافة الكرسي اليمنى مال بجسده إلى الأمام؛ كي يرى بوضوح ثم مال بجسمه إلى الخلف واعتدل في جلسته..بدأ يرتشف قطرات من كوب القهوة..دارت عيناه في المكان. كانت وجوه المسافرين وأجسادهم تتوالى أمام ناظريه حين توقفت عيناه على شخص واحد منهم قادم في اتجاهه..لحظات عادت به إلى الوراء أعوامًا..لحظة حسبها أنه في زمن فات..نظر إليه فاغرًا فاه
…متسائلًا..هل هو هو..قفز من مقعده وكوب القهوة مازال في يده..هتف بصوت عالٍ لفت أنظار الجالسين من حوله..أستاذ أحمد..أستاذ أحمد سرحان ثم أسرع في اتجاه الرجل الذي رآه..يا إلهي أنه هو هو أحمد سرحان ابن حارته وصديق طفولته وزميل دراسته حتى المرحلة الثانوية أنه هو هو بقوامه الممشوق ووسامته المعروفةعنه ..هو هو بوجهه الأسمر وشعره الكث الفاحم وابتسامته العذبة التي تدل علي طيبة قلبه ونقاء سريرته.. هتف لنفسه في فرح وسرور طفولي يا إلهي أنه هو هو أحمد سرحان صحيح أن السنوات باعدت بينهما وتفرقًا ولكن صورته لا تزال تحتل مكانًا في مخيلته..وبكل الشوق والحنين لتلك الأيام الجميلة والذكريات التي لا تزال آثارها عالقة في ذهنه..اندفع نحوه فاتحًا ذراعه على مصراعيها لاحتضانه، وهو مازال يهتف أستاذ أحمد سرحان..كان الرجل يسرع الخطى نحو بوابة المغادرة وكأنما أذهلته المفاجأة فتوقف عن السير ثم تدارك الأمر سريعًا وقال له وهو يبتسم هل تعرفني يا أخي..ثم أردف سؤاله بضحكة وهو يقول إنني لست الأستاذ أحمد سرحان الذي تهتف باسمه ولكنني الدكتور سعيد أبوبكر ويبدو أن التشابه بيني وبين صديقك كبيرًا .. من صوته عرف أنه تسرع في الاندفاع نحو الرجل بهذه الطريقة..وبانفعال المخطئ وخجله قال معتذرًا يبدو أن خداع البصر قد أوقعني في مشكلة كبيرة..خلع نظارته الطبية، ومسحها بطرف غترته…تنهد..ثم مال بجسمه إلى الخلف لينصرف ..جذبه الرجل من ذراعيه وهو يضحك حتى دمعت عيناه ثم نظر إليه بحنو بالغ، وقال له بصوت عالٍ سمعه كل من حوله لا تعتذر يا صديقي العزيز ألا يقولون في الأمثال يخلق من الشبه أربعين..كم أنا فرح وسعيد بلقائك ..نحن أخوه وأصدقاء أليس كذلك..تعال يا أخي لأضمك إلى صدرى واندفع إليه يحتضنه وتشابكت الأيدي والمشاعر في عناق حار؛ كأنما هما شخصان يعرفان بعضهما منذ زمن .. والتقيا بعد طول غياب..من بعيد جاء صوت النداء الأخير لرحلة الخطوط السعودية رقم…المتجهة إلى..على الركاب الكرام المسافرين على هذه الرحلة سرعة التوجه إلى بوابات السفر استعدادًا لصعود الطائرة..مد يده للرجل مودعًا، وهو يقول له أحيانًا من فرط سعادة الإنسان يتخيل أن الحلم حقيقة وأن الواقع خيال..وتصبح لحظات الإنسان العابرة ذكريات لا تُنسى..تشابكت ..أيديهم وانطلقا سويًا وهما يتجهان نحو بوابات المغادرة، وافترقا وسط جموع المسافرين وذابا في دفء المشاعر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى