جدارية شاعر

زُوروني كل سنة مرة

حكاية-

أصبحت عادةً يومية بالنسبة لي أن أذهب إلى الكورنيش بحركته الصاخبة. . ومن الطبيعي أن يتولد شيء من الألفة بين روَّاد المكان الواحد على اتساعه يتبادلون بينهم ابتسامة تعارف..أو إيماءة مجاملة..صباح الخير..صباح النور والسرور.. أو يعلقون ببعض الجمل المقتضبة التي تُمليها عليهم إيقاعات تلك اللحظات الجميلة..التي يفترشون فيها الأرصفة على امتداد الشاطئ..في ذلك الصباح الباكر كان الجو رطبًا والسحب العالية تُضفي بظلالها الرقيقة على البحر سحرًا وجمالًا..والهواء المُشبع ببقايا الندى ينشر شذاه على الجالسين..جلست إلى جواره على أحد الكراسي المتناثرة على الرصيف.. بعد أن أنهيت جولتي من المشي..لم أشأ أن أفسد عليه خلوته مع النفس؛ فقد أغلق عينيه وسرح في شبه إغفاءة..كأنما هو يسترجع أشياء من ذاكرته..فيما كان سارحًا لا أعرف..ولكن حين يكون المزاج طيبًا يحلو للإنسان الانطلاق خلف أفكار متعددة وذكريات شتى، ويُطارد قضايا معلقة يشغل بها نفسه عمَّا يدور حوله من ضجيج … بعد لحظات امتدت قليلًا التفت إليَّ، وعلى وجهه ابتسامة عريضة، وفي عينيه نظرة ترحيب..وقال لي، وهو ينظر إلى اصطخاب البحر، وأمواجه العالية: يبدو أن الأطفال أكثر قدرةً منا على صنع لحظات السعادة لأنفسهم .. هاهم في عرض البحر يُصارعون الأمواج ويمارسون حياتهم بكل حيوية وانطلاق؛ وكأنهم يمنحوننا دروسًا مجانية في كيفية أن نفرح….أخرج من جيبه علبة نحاسية صغيرة، واغترف بأنامله بعضًا من مسحوق التبغ الذي بجوفها، واستنشقه عبر أنفه قبل أن يرتشف من كوب القهوة الذي أمامه رشفة طويلة، وراح يبلل شفتيه؛ وكأنما هو يستبقي طعم القهوة لأطول مدة ممكنة..ثم واصل حديثه معي وهو يملأ رئتيه من هواء البحر..مع تقدم العمر علينا أن نتكيَّف مع ماياتي من حياتنا..ثم أردف وكأنه يُعرَّفني على نفسه قبل التقاعد، كنتُ أعمل خطاطًا بإحدى الصحف المحلية..أكتب عناوين الأخبار والموضوعات الرئيسية، وأسماء الكتاب وعناوين مقالاتهم التي ينشرونها، وكنت أتباهى على الآخرين بأنني أعرف الكثير من الكتَّاب والصحفيين، كما أتباهى بأنني أسبق الجميع في معرفة آخر أخبار العالم، وأعرف كل جديد من الأخبار المحلية والاجتماعية.
كان رئيس التحرير أستاذي وصديقي، وحين غادر الجريدة غادرتها معه بعد أن أمضيتُ أكثر من ربع قرن من العمل الممتع في دهاليز الصحافة..تعوَّدتُ خلالها على العمل ليلًا والمراجعة الدقيقة للكلمات والحروف والعناوين..والمكوث لساعات طويلة قد تمتد إلى ما قبل أذان الفجر؛ حيث أغادر المطبعة وفي يدي نسخة طازجة منها..أغلق عينيه للحظات ثم أردف عندما أستعرض فترات حياتي أشعر بالرضا؛ فأنا أب لثلاث بنات كلهن متزوجات..ولم أرزق بولد.. وبعد التقاعد استبدلت السيجارة ببعض المكسرات والفول النابت..وكوب القهوة مساء بكوب من اليانسون أو النعناع..والقرفة..أما المشي فقد جعلني أعشق البحر أكثر من عشقي للقراءة ..عشتُ طوال حياتي في مدينه جدة التي ولدت بها..ولم أغادرها إلا قليلًا لعدم رغبتي في السفر والترحال، وتباعدت الزيارات بين الأهل والأقارب والأصدقاء بعد أن اتسعت أرجاء المدينة بأحيائها الجديدة، ولم يتبقَ من الحواري القديمة إلا ذكريات الماضي البهيج بأهله وناسه..وبعض بيوتها وأسواقها العتيقة ..حتى قهوة السطوح التي كنا نجتمع فيها مع الزملاء والأصدقاء لم يعد لها وجود.. هل تعلم أنني بعد هذا العمر الطويل لا أجيد لعبة البلوت أو “الدومينوز”..وكان هذا مصدر سخرية من الزملاء ..ظللتُ أصغ إلى مناجاته لنفسه وكأنني غير موجود..أعرف هذه اللحظات التي يقترب فيها الإنسان من نفسه، ويظل يسترسل في الحديث مع ذاته..حدق بعينيه الواهنتين نحو الأفق الواسع، وابتسم قائلًا: لا شيء ينقصني..راتب التقاعد يغطي معظم مصروفاتي وزيادة..ولكن يوجد شيء واحد يُقلقني، ولم أستطع أن أجد له حلًا.. إنه الفراق .. فراق من تحب ..نعم الفراق يُقلقني كثيرًا.. بالأمس ودعت ابنتي الصغيرة التي ذهبت للدراسة خارج المملكة..كانت تملأ علينا البيت حيوية وبهجة؛ خصوصًا بعد أن أصبح لها طفل جميل تأتي به إلينا؛ لنرعاه أثناء غيابها في الجامعه.. كانت مساحة الشمس قد اتسعت في الأفق.. وهواء البحر الندى يحمل نغمات لحن شجي آتٍ من زورق صيد صغير، ينطلق به صاحبه طلبًا للرزق..نظرت إليه كانت عيناه تذرفان دمعة مكنونة بينما شفتاه ترددان بصوت خافت كلمات أغنية قديمة..زوروني كل سنة مرة حرام تنسوني بالمرة…كان يغني لنفسه بينما روحه تهيم فيما وراء المدى البعيد المترامي..

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. حقيقة.. سرحت من أول سطر في المقال حتى آخره، وتمنيت أن لو استرسل الكاتب التميمي في نسج المقال، وجدت نفسي أتقمص دور ذلك القاص لماضٍ عاشه بما فيه من متعة تلاقي الوفاء في صورة أصدقاء الزمن الجميل، نعم.. هي الحياة وسنة الله في الخلق لا بد يوماً لفراق الأحبة، فهادم اللذات مفرق الجماعات لا بد يحين وقته عاجلاً أو آجلاً، ولعروس البحر جدة عبق يلاطفه نسيم البحر ورائحة الرواشين العتيقة، أعترف أن قد دعاني كاتب المقال خبير العلاقات العامة والإعلام في الخطوط السعودية أ. عبدالعزيز التميمي، أن دعاني إلى الخوض في نهج هذه النوعية من المقالات، لا سيما وقد سئم القارئ مقالات الشكاوى والأعطال والسياسة والحروب، شكراً لصحيفة مكة وللكاتب الوقور، وننتظر المزيد من مقالات الذكريات بعيداً عن مقالات ألفناها على صحافتنا، إحتراماتي للتميمي..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى