جدارية شاعر

الرحلة الأولى

حكاية

إنها المرة الأولى في حياته التي يركب فيها الطائرة .. ومنذ الخطوة الأولى لدخوله إلى صالة المطار، وهو يلهج بما يحفظه من الأدعية والأذكار..كانت الصالة مزدحمة بالقادمين والمغادرين ..جلس على أول مقعد صادفه في طريقه، ينتظر الإعلان عن موعد رحلته إلى الظهران للالتحاق بجامعة البترول في أول فصل دراسي له بها..وما إن أعلن المذيع الداخلي للطائرة عن موعد الرحلة حتى تقافز الركاب المسافرون عليها من أماكنهم، وهو معهم وانتظموا في صف طويل أمام بوابة المغادرة..وكل واحد منهم ينتظر دوره في الدخول إلى الطائرة التي تجثم على أرض المطار كطائر الرخ العظيم..ما إن يضع الراكب قدمه على سلمها حتي يختفي في جوفها في ثوانٍ معدودة..حين جاء دوره بعودة النحيل وأعوامه التسعة عشر التي يحملها على كتفيه، ويحمل معها آماله وآمال أمه بالنجاح في دراسته الجامعية..ابتسم للمضيفة الواقفة على بوابه الطائرة، وهو يمد لها يده الممسكة ببطاقة صعود الطائرة..ردت له المضيفة الابتسامة بأفضل منها ..وأخذت منه الكارت ثم طلبت منه أن يتبعها؛ حيث أجلسته على المقعد المخصص له..وهو لا يزال يتمتم بالأدعية والأذكار..من بعيد جاءه صوت المذيع الداخلي للطائرة، وهو يعلن للسادة المسافرين على هذه الرحلة البقاء في مقاعدهم، والتفضل بربط الأحزمة استعدادًا للإقلاع ..شعر بشيء من التوتر، وهو يحاول العثور على حزام المقعد دون جدوى..نظر إلى من يجلس بجواره ليرى ماذا يفعل..تلفت حوله..لاحظت إحدى المضيفات حيرته وتوتره..اقتربت منه، وهي تبتسم..ومدت يدها تربط له حزام المقعد، وهي تقول له يبدو أنها المرة الأولى التي تسافر فيها معنا على الطائرة..هزَّ راسه بالإيجاب ..
زمجرت الطائرة، وهي تسارع خطاها على المدرج، وأقلعت في موعدها واستقرت بأجنحتها على هام السحب..لم يشعر بشيء ..زال توتره، وهو يردد دعاء السفر مع مذيع الطائرة..تطلع إلى من النافذة إلى الكون من حوله ما أروع شعاع الشمس، وهو يخترق قلب الغمام..بعد لحظات عادت إليه المضيفة، وهي تحمل دلة القهوة وبصحبتها زميلتها، وبيدها طبق مملوء بالتمر وقالت له وهي تناوله فنجان القهوة: نحن في العادة نقدم القهوة والتمر لركاب الدرجة الأولى، ولكن لأنها المرة الأولى التي تسافر فيها معنا على الطائرة فنحن نقدم لك ضيافة خاصة..أسكرته رائحة عطرها الجميل وابتسامتها العذبة..تزاحمت في رأسه الكلمات، وهو يحاول أن يعبر لها عن شكره وعلى لطفها ومساعدتها له..ولكنه تردد، ولم يجرؤ حتى على النظر إليها..حبس كلماته في صدره، وجلس صامتًا..تذكر دعوات أمه له، وهي تحتضنه وتودعه، وهو يغادر المنزل..ربنا يوجه لك الخير ويسخر لك الطيبين من الناس..وظلت لمدة طويلة واقفة عند باب البيت، وهي تلوح له بيديها المعروقتين اللتين طالما حملته، وهو يلعب في تراب الحارة في انتظار عودتها من مدرسة البنات التي كانت تعمل بها لكسب بعض النقود إلى جانب ما تقبضه من راتب تقاعد والده الذي لا يكاد يكفي ما يبقى منه بعد الإيجار للصرف على كل ماتحتاجه هي وأطفالها من مصروفات ضرورية..تضمه إلى صدرها، وتغسل وجهه من التراب، وحين يلفظ الغطاء، ويصحو من نومه كعادته في منتصف الليل؛ ليتوسَّد صدرها تحيطه بالدفء وتطعمة حبات من البسكويت الذي يحبه كثيرًا..كان وحيدها بين ثلاث بنات.. رفضت أمه الزواج بعد وفاة والدهم؛ حتى تتفرغ لتربيتهم وظلت تعارك الدنيا لتبقى لهم وحدهم..قال لها وهو يقبل رأسها ويديها، ويقف بين يديها مودعا كما يفعل ذلك كل صباح وهو ذاهب إلى المدرسة..هذه المرة ربما سيطول غيابي عنك ياأمي..قالت له وهي تبتسم فرحة مشجعة الفراق: مر واللقاء نصيب..المهم أن نفرح بنجاحك في دراستك، وتعود إلينا سالمًا، وقد حققت أحلامنا جميعًا ونلت الشهادة الكبيرة..ثم استدارت بعد أن أصلحت من غترته كعادتها كل صباح، وأحكمت وضع العقال على رأسه..ثم أطبقت كف يده اليمني على مبلغ من المال، وهي تقول له بصوت خفيض: إنها خمسمائة ريال..اصرفها حين تحتاج إليها..هرع إلى الشارع قبل أن تتناثر دموعه، وقال لنفسه انتهت أيام اللعب، ولم يعد هناك وقت للتسكع مع الأصحاب..وحين مر بجوار مدرسته الابتدائية القديمة..شم رائحة شجيرات الريحان المتدلية من فوق سورها..وسمع رنين جرس المدرسة، وهو يعلن للتلاميذ للدخول إلى فصولهم بعد انتهاء الفسحة الكبيرة..تذكر يوم خطت قدماه إلى المدرسة لأول مرة ودخوله في زحام الأولاد، وهم يتدافعون فرحين بأول يوم لهم..واحد المدرسين يهزَّبين يديه بعصا نحيفة ليخيفهم بها..عرف فيما بعد أنه الأستاذ معتوق وكيل المدرسة ..وترددت في أذنيه أصوات المدرسين، وهم ينادون على الأولاد المستجدين، ويجمعونهم ليصطفوا لوحدهم..وفي الفصل تلقى أول ضربة بالعصا؛ لأنه لم يردد بصوت عال ماكان يتلوه عليهم المعلم من قصار السور..وتلقى من مدرس آخر علامة النجمة الذهبية؛ لأنه استطاع أن يعد من واحد إلى العشرة بدون أن يخطئ..وحين عاد من المدرسة إلى البيت جلس يحكي لأخواته وأمه، وهي تعد لهم طعام الغداء مامر عليه من أحداث ذلك اليوم، وينصت إليها وهي تقص عليهم بعض أحوال مدرسة البنات التي تعمل بها وطلبات المعلمات التي لا تنتهي..مرة أخرى جاءه صوت المذيع الداخلي للطائرة، وهو يعلن للمسافرين بأن إشارة ربط الأحزمة قد أضاءت، وأن عليهم العودة إلى مقاعدهم استعدادًا للهبوط في مطار الملك فهد الدولي..من علو بدت البيوت ذات السطوح المستوية المتناثرة حول المطار، وهي تنحدر نحو البحر؛ وكأنها على موعد مع سطحه الأزرق..وحين لامست عجلات الطائرة أرض المطار وسكنت محركاتها ..تسارع الركاب بالوقوف وتزاحموا على أبوابها للنزول من بطنها..وراح كل واحد منهم يستنشق هواء الأرض، ويحمد الله على سلامة الوصول..نظر إلى أعلى السلم كانت المضيفة تقف في مكانها، وهي تودع الركاب بابتسامة عريضة..نظر إليها..ونظرت إليه لوَّح لها بيده لتحيتها..لوحت له بيدها مصافحة عن بُعد..كان الوقت أصيلًا عندما خرج من بوابة المطار والشمس مازالت في كبد السماء تعكس حرارتها على أسفلت الطريق وضوئها على سطح مياه الخليج الهادئة..طلب من سائق الأجرة أن يوصله إلى سكن الجامعة في وسط المدينة، وفور وصوله إلى غرفته، ألقى بحقيبته على السرير وهبط؛ ليتجول في شوارعها المتقاطعة المبلطة بالطوب الحجري المظللة بالأشجار..المليئة بالحركة والحياة والناس..وبيوتها ذات الطابقين..وعندما ازدادت حمرة الشفق في السماء، ومضى أكثر من ساعة على سيرة متجولًا على أقدامه..عاد أدراجه إلى السكن الجامعي.
أزاح ستائر النافذة، وألقى نظرة على الحي الجديد الذي يسكنه..أحس بالتعب..استلقى لينام وحيدًا وهو يٌغالب دمعة كبيرة، انزلقت على خده، وهو يتذكر وجه أمه وتمنياتها بعودته وهو يحمل الشهادة الكبيرة..وغط في نوم عميق..

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. عبدالعزيز التميمي ليس كاتباً عادياً يكتب مقالة لكنه اديب سطوره ترسم اجمل القصص والروايه ، ينقلك الى مسرحه وعالمه باحترافية الكبار وتصبح الرحلة الاولى اجمل الرحلات

  2. الله!
    ما أروعك يا صديقي.
    أحببْتُ هذه القصَّة كثيرًا، تذوَّقتُها كلمةً كلمةً. كنتَ يا عبد العزيز تأخذ بِيَد القارئ برفق، فبينما هو في الحاضر إذا بك تنقله، في سلاسةٍ ومهارة إلى ماضٍ لصيقٍ بالحاضر، لحظةَ ودَّعَ البطل أُمَّه، ثُمَّ تَعبُر بنا إلى ماضٍ ضاربٍ في القِدَم، يومَ كان تلميذًا في الابتدائيَّة، حتَّى إذا غَلَبَنا الحُزنُ لفراق أُمِّه، عُدتَ بنا إلى حيث مقعدُه في الطَّائرة…
    كنتَ يا صديقي أديبًا فنَّانًا، رغمَ عُزلتِك الأدبيَّة التي ضربتَها على نفسِك، ورغم زهدك في الأضواء، هذا وأنت الأديب الكاتب الذي لا يرجو مِنَ الكتابة إلَّا أن يكون أديبًا منشئًا فنَّانًا.
    أعرف الأديب عبد العزيز التَّميميّ منذ سنواتٍ.. هو مِنْ جيلٍ يسبق الجيل الذي أنتمي إليه، لكنَّني عرفتُه يومَ كنتُ أُحَرِّر في صحيفة المدينة المنوَّرة وملحقها (الأربعاء)، في عصره الذَّهبيّ، ثُمَّ باعدتْ بيننا الأيَّام ولمْ نلتقِ إلَّا لقاءً عابرًا، وكنتُ كلَّما طالعتُ شيئًا مِمَّا يكتب أقرأه فرِحًا، وأتذكَّر ماضيًا له في الكتابة، وعَدَدْتُ ما يذيعه في صحيفة مكَّة الإلكترونيَّة مِنْ أزكى ما أقرأه فيها، وحمدتُ للصَّديق عبد الله الزهرانيّ – رئيس التَّحرير – أنْ أعاد عبد العزيز إلى النَّشر؛ ينشر مرَّةً، ثُمَّ لا يلبث أن يغيب، مُدَّةً قدْ تطول أوْ تَقصر، ثُمَّ يعود إلى قرَّائه في (مكَّة الإلكترونيَّة) فيَذوقون أدبًا عاليًا، يُدخل إلى نُفُوسهم لذَّةً ومَتاعًا، ويُحَيُّونه على هذا الأدب الرَّائع، ويَعجبون لهذا الأديب الذي ينشئ أدبًا رائعًا عاليًا، كيف تَجاهلَتْه حياتُنا الأدبيَّة، وهو الأديب الكبير.
    ألا ما أشدَّ خسارتَنا إذْ لمْ نُنْزِلْ أدب عبد العزيز التَّميميّ المقام الذي يستحقُّه!
    شكرًا لك أيُّها الصَّديق الأديب.. لقدْ أسعدَني نصُّك البديع هذا، وشكرًا لصديقي رئيس التَّحرير عبد الله الزَّهرانيّ على احتفائه بهذه الشَّخصيَّة الأدبيَّة المحترمة.

    حسين محمَّد بافقيه
    ٢٧ مِنْ شهر ربيع الأوَّل سنة ١٤٤٣هـ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى