المقالات

صلح الحديبية..ومرويات الطبري

رحم الله الدكتور خالد محمد علي يماني الذي رحل عن عالمنا مبكرًا، وترك لنا إرثًا علميًا، امتزج فيه روح الباحث الجاد المُحب لعمله مع العلم والمسؤولية الفكرية..تكسوها غلالة رقيقة من السماحة والتواضع..والطيبة وعُمق النظرة وفاعلية الأداء..وقد قيض الله لهذا الإرث الجميل شقيقه الأستاذ فاروق يماني الذي تحمل مسؤولية إصداره في كتاب في خطوة تحمل الكثير من معاني الحب والإخوة الصادقة..

والكتاب الذي بين أيدينا كتاب صغير في حجمه كبير في مضمونه؛ فهو يجمع بين دفتيه ملخصًا وافيًا لرسالتين علميتين قيمتين تثري الفكر، وتنير الطريق أمام الباحثين لمزيد من الدراسات حول التاريخ الإسلامي..وقد حصل بموجبهما -رحمه الله- على شهادة للماجستير بتقدير جيد جدًا عام ١٤٠٦ هجرية، وعلى شهادة الدكتوراة بامتياز عام ١٤٢١ هجرية من كلية الشريعة والدراسات الإسلامية (قسم الدراسات العليا التاريخية والحضارية) بجامعة أم القرى بمكة المكرمة حرسها الله..وقد تناول في رسالته للماجستير موضوعًا مهمًا بعنوان (صلح الحديبية وأبعاده في نشر الإسلام داخل الجزيرة العربية وخارجها)، ويعتبر صلح الحديبية في أواخر العام السادس من الهجرة نقطة تحول كبرى في تاريخ الإسلام والمسلمين؛ إذ على الرغم مما بلغه المسلمون قبل الحديبية من قوة إلا أن مبدأ التسامح الإسلامي، كان الأساس الذي اتبعه الرسول -صلى الله عليه وسلم- في قبوله للشروط التي تمسك بها كفار قريش مما يدل على رغبته في السلم لما كان يراه من مصلحة للإسلام والمسلمين، ولقد أثبتت الأيام أن موقف الرسول-صلى الله عليه وسلم- عام الحديبية يدل دلالة واضحة على بعد نظره وحنكته السياسية التي لا تدركها العقول لأول وهلة، وهو في ذلك يرسم لأمته الطريق السوي؛ ليكون مثالًا لهم يحتذى وأسوة لهم يقتدون بها في حياتهم وعلاقاتهم العامة والخاصة..فلم تكن الحرب إلا آخر ما كان يلجأ إليه عندما يضطره أعداؤه إليها اضطرارًا..وعلى الرغم من معارضة بعض الصحابة للشروط التي أصر المشركون عليها إلا أن تمسك الرسول بحكمته، وبعد نظره قبلها؛ فكان هذا الصلح هو الأساس الذي تمسك به الرسول -صلى الله عليه وسلم- ونشأ عن نقض قريش له ما تحقق من فتح مكة المكرمة في السنة الثامنة الهجرية، ودخول قريش بأسرها في الإسلام ثم بادرت القبائل العرببة الأخرى بإعلان إسلامها، وقد تحقق بفعل هذه الهدنة نتائج أخرى عظيمة في تاريخ الإسلام داخل الجزيرة العربية وخارجها.
أما رسالة الدكتوراة فهي بعنوان: (مرويات الطبري عن ابن شبه عن عصر الخلفاء الراشدين..دراسة نقدية مقارنة)، وفي مقدمته الضافية يقول -رحمه الله-.. إن فكرة اختياره لهذا الموضوع نبعت عن المشروع العلمي حول تاريخ الطبري باعتباره مصدرًا أصليًا للتاريخ الإسلامي وتاريخ الخلافة العباسية حتى نهاية القرن الثالث الهجري تقريبًا، وكان الدافع إلى تقديم هذا المشروع هو خدمة التاريخ الإسلامي بخدمة مصادره وتحقيقها، وكشف الرواة الضعفاء ومن ذوي الأهواء والكذب..وبيان الروايات الضعيفة .. خاصة إذا أخذنا في الاعتبار أن هذه الروايات وأمثالها هي الأداة التي استخدمها المستشرقون، ومن تابعهم في تشويه التاريخ الإسلامي..وعلى الرغم من أن الطبري ينقل عن ابن شبه روايات كثيرة تتناول عصر الخلفاء الراشدين والعصر الأموي والفترة الأولى من العصر العباسي إلا أنني رأيت أن تقتصر رسالتي هذه على دراسة وتحقيق مرويات ابن شبه عن عصر الخلافة الراشدة فحسب( ١١-٤٠ هجرية)، وهي فترة عظيمة الأهمية في التاريخ الإسلامي حافلة بالكثير من الأحداث الكبري التي تحتاج إلى تحقيق واستقراء ثم تحليل صادق أمين يسفر عن الحقيقة التي هي ضالة المؤمن)..وقد استطاع الدكتور خالد يماني -رحمه الله- أن يناقش القارئ بمنهج علمي مستنير لا يقع في التفاصيل، ولا في بحار التنظير فهو يضع يده على القضايا الأساسية بأمانة وموضوعية ..مستعينًا في ذلك بأمهات الكتب للتحقيق والتعليق على الأحداث التي دار حولها البحث.
ولعلنا نشير هنا إلى أن الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري قمة شامخة في التاريخ الإسلامي، ومن العلماء الذين بلغوا مبلغ الإمامة في العلم والورع والسلوك، وظهرت شهرته في العلوم الإسلامية واللغة لعربية بين علماء القرن الثالث الهجري وأوائل الرابع للهجرة فهو شيخ المفسرين وعمدة المؤرخين ..وإليه يرجع العلماء والباحثون.
أما الباحث الدكتور خالد محمد علي يماني-رحمه الله- فهو ابن مكة المكرمة ولد بها سنة ١٣٧٠ هجرية ووالده هو الشيخ محمد علي يماني -رحمه الله- كان يلقي دروسه الدينية بالحرم المكي الشريف إلى جانب عمله مدرسًا بالمدرسة العزيزية الثانوية بمكة..وجده الشيخ العالم الجليل سعيد اليماني -رحمه الله- الذي يقول عنه الأستاذ عمر عبد الجبار في كتابه الرائد سير وتراجم لبعض علمائنا في القرن الرابع عشر للهجرة، كان الشيخ سعيد اليماني حمامة المسجد كما يقولون عنه، وكان يسمي الشافعي الصغير لمعرفته الغزيرة والمتعمقة في فقه الإمام الشافعي وأصوله وفروعه وكان يعد مرجعًا لطلاب العلم في زمانه ….
وبعد فهذا عرض سريع ومختصر لكتاب يستحق القراءة تحمل سطوره خطًا أمينًا تبعث على الفرح وتبشر بمزيد من الدراسات التاريخية الجادة، وتفتح نافذة فكرية تدعو الباحثين لمتابعة السير نحو المزيد من البحث العلمي..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى