المقالات

هذا أبي .. “العفو”

العفو والتسامح عادةً تنبع من جمال روح الإنسان المُتشبعة بالإيمان، وكان والدي -يرحمه الله- يعفو ويصفح، ويسامح محتسبًا الأجر عند الغفور الديّان، وسوف أذكر في هذا المقال أحد المواقف التي تأثرت بها وعززت قيمة العفو في نفسي.

في مرحلة الطفولة لا تخلو أوقاتنا من شقاوة الأطفال، وأنا في الصف الثالث الابتدائي، كنّا نفرح عندما تأتي سيارة من نوع (وانيت) للحارة، لنتسلق على صدامه الخلفي، ونتمسّك في الحديد، ونجوب الحارة (محد قدنا)، وفي أحد الأيام دخل الحي (وانيت غريب) يسوقه مقيم من اليمن الشقيق، وكانت حارتنا ضيقة لا يوجد مكان للتدوير؛ فاضطر السائق يرجع للخلف (ريوس) مسافة طويلة حتى يخرج من الحي، وعادة السائقين في ذلك الوقت الذين يأتون من الأحياء الواسعة، لا يجيدون القيادة في الأحياء الضيقة، ويخشون أن يصدموا في جدران البيوت الملاصقة لهم أو السيارات الواقفة على امتداد الحارة من الجهتين.

المهم بدأت شقاوتي أنا وزميلي سالم مغربي، فركبنا على الصدام من الخلف وسرعان ما اختل توازني، وسقطت قدمي بين حدائد الصدام وسقطت على الأرض، ولم ينتبه لي السائق، فطلع بالكفر الخلفي الأيمن عليّ ودهسني، ولم يقف إلا على أصوات الناس المارة، “وقّف وقّف الولد تحت السيارة”، وقّف السائق والتمّ أهل الحي حولنا، وأخرجوني من تحت السيارة، ووضعوني على أرضية البازان حق الماء المجاور لحوش عبدالله جاوه -يرحمه الله- وأتذكر جاري عبدالله الغامدي (العُريف) يناديني عبدالله كيفك طمني عنك، ويضرب على وجهي ووقتها شبه فاقد الوعي، وفي نفس الوقت جاتني حالة غريبة، لم أعد أشاهد أي شيء، فقط أسمع كلامهم، بعدها حملوني في السيارة للبيت، وأخذوا رخصة السائق اليمني، واصطحبوه معنا؛ لينظر والدي في أمره.
وصلنا البيت، ولم يكن والدي موجودًا في ذلك الوقت، وقد تجمهر الجيران حول بيتنا، الصغار والكبار، في انتظار وصول الوالد؛ حيث كان في حلقة الخضار بجرول وعلى موعد وصوله المعتاد، جاء الوالد مشيًا على الأقدام كعادته، وعلى رأسه كرتون المقاضي، وعندما شاهد التجمهر عند البيت، وبعد أن قرأ عيون الحاضرين (خاف) -رحمة الله عليه- وشعر بوجود أمر جلل، فبادره جاري عبدالله السلام وأخبره بأنني تعرضت لحادث دهس، فرد عليه الوالد، “سِلِم عبدالله”؟، قال: أبشرك سِلِم، ولكن أعتقد عنده إصابات ويحتاج الذهاب للمستشفى، وهذا السائق مسكناه يا عم أحمد، حتى تصل، وهذه هويته، إذا تبغانا نجيب المرور أو الشرطة أو إذا تبغى منه شيئًا، قال الوالد، على الفور: -الله يسامحه- ما أبغى منه شيئًا، ففرح المقيم اليمني، وغادر فرحًا مسرورًا بعد القلق الكبير الذي عاشه.
دخل الوالد يطمئن عليّ وكنت لا أستطيع أن أحرّك يدي اليمنى، وأثار الدم في وجهي وتبيّن بعد الأشعة وجود كسر في ذراع يدي اليمنى وخلع في الكتف.

رحم الله أبو عبدالله، وأسكنه الفردوس الأعلى، وجزاه الله عني وعن أهلي خير الجزاء عدد ما تعب علينا، وحمل همومنا وسهر على راحتنا.

أستحضر هذا الموقف اليوم وأستحضر معه قول الشاعر المعري:
إذا عثرَ القومُ فاغفرْ لهم  **  فأقدامُ كل فريق عُثر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى