المقالات

اللغة العربية، الجمال والجلال

مما امتن الله به على العرب أن أنزل الكتاب العظيم {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء : 195] لا ليقيم عليهم الحجة فحسب، بل لأنها اللغة الوحيدة العالمية القادرة على البقاء والتجديد، والتكيف والتجديف؛ لتتسع لمعارف جمة وعلوم عديدة ومعاني عظيمة وحكم بالغة، وأدلة ودلائل دامغة، وقوانين شاملة، وأحكام وأنظمة للحياة كاملة، وأخبار عامة لما مضى، ولما هو آتٍ من غيبيات، وتنبؤات مما أذن الله بعلمه!!

وهو الشهادة بغزارة ألفاظها، وقوة تأثيرها وتنوع أساليبها، وضخامة قاموسها، وعمق معانيها، وتعدد مآلاتها، إذ لم تعد مجرد أصوات ناطقة بل مدلولات حيوية تفاعلية تحرك الأحاسيس وتجيش المشاعر وتوقظ الفكر، وتثير الخيال وتجسد الرؤى!

إنها: مركب للإبحار، مكوك للفضاء، بُراق للمعراج، برق لامع، نجم ساطع، ملكوت شاسع، ألوان لقوس المطر، سحاب مدرار، غيث مغيث .. سماء ذات أبراج، أرض ذات أدراج، جبال ووهاد أمشاج!!

قل: ما شئت، الكون والكيان والمكنون، إنها كل ما نكن ونفكر، كل ما نقرأ ونكتب ونتحدث، كل ما نرى ونسمع، ونشعر ونستشعر، ونعلم ونعلم!!

إنها حيّة تتقلب بتقلب الأحوال، وتتغير بتغير المآل، تسير أينما سرنا، وتحل أينما حللنا، سلما إن سالمنا، وحربا إن حاربنا!! ليست شيطانًا متلونًا ولا ملاكًا متواريًا، بل هي روحًا نتنفسها، نتذوق معها معنى الحياة، تتدفق مع نبض القلب، تميل حيثما ملنا.. تتفاعل مع صليل السيوف، كما تطفق مسحًا بالسوق والأعناق.. تثير نقعًا؛ لتلهب صفيحًا حارقاً في ساحة الوغى إذ يغشى الناس الرعب من ويلات معترك قاصم قاصف عاصف لا يذر من شيء إلا جعله كالرميم؛ سحقًا ومحقًا!! لتتعالى إذ ذاك الأصوات بلغة الحرب؛ فزعًا وجزعًا، أو اتقادًا؛ دعمًا ونزعًا؛ لتُنَصّب اللغة إذ ذاك متحدثًا ناطقًا؛ إشادة وإفادة بالانتصارات؛ تضخيمًا وتفخيمًا، أو لترسل كـشواظ من نار تلهب الأعداء؛ تهديدًا وتغليبًا؛ تقليلًا وتحطيمًا وتسفيهًا.. فيما يعرف بـ (الحرب الإعلامية)!

طَوْراً يجَرَّدُ للطعانِ وتارة …ً يأوي إلى حصدِ القسيِّ عرمرمِ
يُخبرْك من شَهدَ الوقيعَة …َ أنني أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنم
ولقد ذكرْتُكِ والرِّماحُ نواهلٌ…مني وبيْضُ الهِنْدِ تقْطرُ منْ دمي
فوددتُ تقبيل السيوفِ لأنها…لمعت كبارق ثغركِ المتبسِّم

وكما هي حاضرة في الأجواء الصاخبة لتكون جزءًا من معركة دامية تتقاسم الفتك؛ ضربًا للأعناق؛ لتحكي شدة الصلف والقسوة والجبروت؛ فإنها في المقابل وديعة مسالمة لطيفة أنيقة رحيمة، تضرب صفحاً وتصدح سلمًا.. ودودة تنساب شهدًا شفيفًا، تغدق حبًا عذبًا صافيًا سلسًا على لسان العاشقين لتنسج خيوطًا حريرية ناعمة من أغنية موسيقية تستميل القلوب وترقق المشاعر وتلهم الأحاسيس، لتكون جسرًا ساحرًا يخالج الأفئدة؛ كبرق خاطف أو كريح عاصف لا يقدرون على المقاومة مهما اعتصموا؛ تقتحم مغاليق القلوب لتحتلها، والغافلة لتوقضها، والجبلة لتختلها، والأناءة لتستل منها هدوءها!! لكنها عناق روحي خفي، كطيف يراود الفكر أو كنسيم عليل في لحظة تجلي تنساب بحفيف خفيف أنيس يريح القلب ويسمو بالنفس ويتعالى بالفكر كشآبيب رحمة مسداة،!!
يا ظَبيَةَ البانِ تَرعى في خَمائِلِهِ .. لِيَهنَكِ اليَومَ أَنَّ القَلبَ مَرعاكِ
الماءُ عِندَكِ مَبذولٌ لِشارِبِهِ .. وَلَيسَ يُرويكِ إِلّا مَدمَعي الباكي

إنها لغة الرسائل الروحانية التي تصل الخلق بالخالق، تطلقها الحناجر تضرعًا؛ خيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال!! إنها لغة التعامل والتواصل والتعايش بين بني البشر.. إنها لغة التصارع بين قوى الشر، لغة التصالح بين الفرقاء، لغة التفاهم بين الشرفاء، لغة التجاذب بين الشركاء، لغة التراشق بين الأشقياء، لغة التواصل بين الأشقاء، لغة التناغم بين الأحباء، لغة مشتركة بين الأحياء .. إنها لغة التشكيل الجمالي الذي يجسد الخيال أو ينسج المكنون في سبك بلاغي رصين، أو يترجم الأفكار في قالب شعري، أو في جسد نثري مزركش بالبديع أو مرصع بالمحسنات أو بالمعاني والبيان، ليصوغ الجمان، رؤى لحكاية صاغها البنان، لتطلق العنان للسان، ليبوح بسر الجنان، لتكون في حكم العيان، متاحا مباحا لكل الناس والأعيان!!

ها هي يا سادة يا كرام لغة القرآن، لسان عربي مبين غير ذي عوج لعلكم لها تصونون، ولمفرداتها تصوغون، ولحبكها تحسنون، ولجمالها تمتنون، ولأسرارها تتعمقون، ومن بهائها تنهلون!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى