المقالات

كأس الشاي

خُلق كريم يدل على علو الهمة والكرم والثقة بالله ! فقد مررت بموقف رأيت فيه هذه العبارة تتمثّل أمامي بجلاء، ففي إحدى الأمسيات، وأنا أقود سيارتي، تاقت نفسي لشرب شاهي الجمر (أبو النعناع) .. وعادة ما أحتفظ بكأس زجاجي في سيارتي لمثل هذه الحالات، ففي فلسفة الشاهي عند (كييفينه) أي أهل الكيف فيه، أن ُيشرب الشاي في كأس زجاجي شفاف، حتى تكتمل متعة رشفه، وتذوق طعمه، مع مشاهدة لونه الأحمر القاني، بينما القهوة (النسكافيه) تكتمل متعة تذوقها مع رائحتها النفاذة، ولا بأس من شربها في كأس معتم.
وتوقفت أمام إحدى (البسطات) التي انتشرت مؤخرًا في ظاهرة اجتماعية تتواكب مع التوسع في تمكين المرأة من الخروج للعمل وطلب الرزق، تلك البسطة التي اختارت صاحبتها موقعًا شبه ناءِ في آخر المخطط؛ حيث تقل المساكن وتكثر الأراضي البيضاء، امرأة (خمسينية) لا يُرى إلا عينيها اقتربت من سيارتي لتلبي طلباتي، فأعطيتها الكأس الزجاجي لتضع فيه الشاي مع النعناع وفق رغبتي، وقبل أن تلتفت راجعة إلى بسطتها، اكتشفت أن جيبي خالٍ من أي نقود ! ورقية أو معدنية فقط (بطاقة الصراف البنكية)، نظرًا لقلة استخدام النقد في التعاملات الشرائية تدريجيًا لتطور الخدمة المصرفية الإلكترونية؛ فطلبت منها أن تعيد لي الكأس، واقتربت من السيارة مرة أخرى .. وسألتني .. لماذا؟، فأخبرتها أنه لا يوجد معي أي نقود.. وبطبيعة الحال ليس لديكِ جهاز للسحب النقدي، الذي نجده عادة في المحال والمطاعم وغيرها ! فقالت بنبرة حادة أظهرت معها أصالة بنت بلدي العزيز:
– والله ما ترجع لك (الكاسة فاضية) .
وتجادلنا كثيرًا في ذلك، أنا أصر على عدم رغبتي في الشاي، وهي تصر على عدم إرجاع الكأس إلا بالشاي، وحسمت الموضوع قائلة:
– وقت ما تتذكر تعال وأعطني (الثلاثة ريالات) قيمة الشاهي. فقلت لها:
– والله إنك صعّبتِ الأمر عليّ، فقد أنسى الموضوع برمته، ويبقى المبلغ رغم قلته عالقًا بذمتي، فأرجوكِ أعيدي لي كأسي. فردت بقولها:
– الكأس لا يرجع إليك فارغًا، وإن نسيتَ فإني مسامحتك، والله شهيد.
وأُسقط في يدي، وحاولت مرارًا البحث في جيوبي، لعلي أجد بضع ريالات ! وفجأة تذكرت أني أحتفظ بورقة من فئة (المئتي ريال ) طبعة فريدة تم إصدارها بمناسبة إطلاق رؤية المملكة 2030، كنت قد احتفظت بها قبل فترة طويلة، في مكان سري في درج السيارة مع الرخصة، على أن أقوم لاحقًا بضمها إلى رفيقاتها في مجموعتي الخاصة من العملات النادرة. فقلت لها:
– هذه من نصيبك وجدتها في درج السيارة، وهي لك خالصة من أخيك، ولك الفضل.
وتمنّعت في البداية من أخذها، إلا أنها مدت يدها وأخذتها بعد أن أقنعتها، أن المولى أراد أن أحتفظ بها طويلًا في ذلك المكان، لتكون من نصيبها. قالت بصوت متهدج ودمعة في عينيها:
– بالله عليك (صافطها) يا خوي. قلت بصدق:
– بالتأكيد أختي الكريمة (صافطها) كما صفطتِ أنتِ قيمة الشاي. قالت:
– هل تصدق أني منذ فرشت بسطتي هذه- من بعد أذان العصر، وها قد أوشك العِشاء – لم يدخل جيبي ريالًا واحدًا، وظننت أني سأرجع بيتي خالية الوفاض، لكني استشعرت قوله تعالى (وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ).
وعادت إلى بسطتها ولسانها يلهج بالدعاء والشكر لله ..
والقصة بسيطة في مجملها، لكنها عميقة في قيمتها، والمرأة بسيطة في هيئتها، لكنها تحمل قلبًا كبيرًا مليئًا بالحب والقناعة والإيمان والثقة بالله، وكأس الشاي ذهب فارغًا، وعاد لي مملوءًا بالشاي، ويحمل قصة رأيت أنها جديرة بمشاركتكم إياها.
​​​​​

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى