منتدى القصة

اشتياق

حكاية

أكثر من نصف ساعة مضت، وهو واقف على رصيف الشارع، وعيناه تنظران باهتمام على مدخل المستشفى الكبير الذي يبعد خطوات قليلة عن المكان الذي يقف فيه مقطب الجبين تعصف برأسه العديد من الأفكار المتصارعة والصور المختلفة، ولا يكاد يرى شيئًا مما حوله في تلك الساعة المبكرة من هذا الصباح الجميل ..إنه يتوق لرؤيتها..لقد قرر ذلك من قبل عودته من مقر عمله في منطقة تبعد كثيرًا عن مدينته..ولكن ثمة أمور كثيرة تجعله يتردد في ذلك ..يمر من أمامه كل ما يتخيل حدوثه لو أنها رفضت مقابلته والحديث معه..ولو قبلت ذلك ماذا عساه سيقول لها ..بل ماذا عساه يقول لنفسه ومن أين يبدأ من الأمس القريب أم من الماضي البعيد. هل يصرح لها بما في داخله أم يتردد ويتحفظ..كانت تلك الأفكار تتزاحم في رأسه حين رآها من خلف الكافتيريا وهي تدخل من بوابة المستشفى ويدها اليمني في جيب معطفها الأبيض الناصع، وقد بدت نحيفة تعلو وجهها مسحة من الحزن المترفع..شعر بوخزة ألم وهتف لنفسه لعلك أنت السبب فيما تُعانيه، أراد أن يلحق بها قبل أن تصعد درجات المستشفى، ولكنه تراجع وجلس على أحد الكراسي المبثوثة حول الكافتيريا..طلب لنفسه كوبًا من القهوة وأشعل سيجارة سرعان ما أطفأها بعد أن شعر بمرارة دخانها في سقف حلقه..حدق في ساعته الزمن يمضي وسفينة الذكريات لا تتوقف عن الإبحار به في صور لاهثة تترى أمام عينيه..أنهى احتساء كوب القهوة بسرعة واستسلم لرغبته للقائها..قفز من فوق المقعد وتقدم نحو بوابة المستشفى، وهو يمرر براحته على جبينه ويهبط بها حتى ذقته ويمسح بها حبات العرق المتناثرة على وجهه..دفع بقدميه دفعًا، وهو يصعد درجات السلم متمهلًا؛ وكأنه يمشي على لوح من زجاج مصقول وصل إلى قاعة الانتظار التي تحفل بالعديد من المرضى الذين ينتظرون وقت مناداتهم للدخول إلى عيادات الأطباء المتناثرة في أرجاء المكان..استأذن من الممرضة في الدخول إليها بعد أن وعدها أن لا يتأخر كثيرًا.. طرق باب العيادة.. جاءه صوتها خافتًا يطلب منه الدخول ..دخل وأغلق الباب من خلفه..كانت تجلس وحيدة في صدر الغرفة، وقد أحنت رأسها تنظر إلى بعض الأوراق المكومة على مكتبها..ولما أحست بوقع أقدامه رفعت رأسها إليه متسائلة..غريبة تلك الابتسامة التي استقبلته بها وذلك الهدوء البالغ الذي بدت عليه ..ابتسمت في تحفظ وهي تهم واقفة من مجلسها، ومدت له يدها مصافحة ..أبقى يدها في يده ونظر إلى عينيها بثبات فيما اتسعت ابتسامتها وهي تقول بلهجة فيها الكثير من العتاب الحمد لله على السلامة..أما هو فقد ظل وجهه جامدًا يغلفه ستار من الصمت الكثيف..دار ببصره دورة سريعة في أرجاء المكان..وقال بصوت مبحوح جئت لأسأل عنك وعن الأولاد..شعر بالدموع تغمغم في عينيه، وهو يسمع صوتها كلنا بخير وهم يسألون عنك وخصوصًا الصغيرة لارا..ظل صامتًا وهي تتطلع إليه بعينين كلها صفح وغفران وقال لها وهو يستجيب لطلبها بالجلوس على المقعد المقابل ..وددت لو نتقابل في مكان هادئ نناقش بعض الأشياء..قالت له مرحبة يسعدني ذلك ولكن بشرط أن تترك لي تحديد الزمان والمكان..مر من أمامه شريط من الماضي القريب في لحظات خاطفة؛ فزاد ذلك من إحساسه بالألم..هند زوجته وشريكة حياته وصباه وسنده في بدايات ..هي ابنة خالته عرفها منذ أن كانت طفلة تحبو أنه يكبرها بثلاث سنوات أو أربع وكعادتهم عندما يجتمعون في البيت الكبير كانا يصعدان مع جدتهما إلى السطوح؛ ليساعداها في إطعام الدجاج والحمام الذي تربيها في عشة مقامة في زاوية من السطوح..وكانا يتسابقان في نثر ما يتبقى من الحبوب للعصافير التي ترفرف من حولهم؛ وكأنها تودع الشمس التي تهبط بأشعتها الذابلة على حائط المسجد وجدران البيوت المتلاصقة، ومنها إلى الأرض قبل أن تنسحب في انحدارها شيئًا فشيئًا نحو المغيب وتغمر نفسها في مياه البحر..وفي بعض الأحيان كانت جدتهما تطلب منهما مساعدتها في جمع ما تناثر من الملابس المغسولة المدلاة على الحبال…وكان يحلو له أن يستعرض أمامها مهارته وهو يتشعلق على سور السطوح العريض، ويجلس على حافته ويشجعها على الصعود معه والجلوس إلى جواره..كانت في البداية تخشى الصعود ولكنها تشجعت بعد ذلك، وأصبحت تجلس إلى جواره كحمامة هدها الطيران فاختارت أن ترتاح في الظل، وهي تنظر من علو إلى الناس في الشارع وحركتهم التي لا تهدأ..وحين تكبر مساحة الظل وتميل الدنيا إلى العتمة، ويظهر وجه السماء المرصع بالنجوم الساهرة تصعد الخالات مع أبنائهن وقد حملت إحداهن صحنًا كبيرًا مملوءًا بشرائح من البطيخ البارد..فيجلس الجميع حوله يأكلون ويتجاذبون الحديث..ورغم حرارة الجو والعرق الذي ينضح من الجميع؛ فقد كانت تلك اللحظات من أصفى اللحظات وأجملها..ولما اشترت له أمه دراجة حمراء بمناسبة نجاحه في المرحلة الابتدائية كان يردفها من خلفه ويطوف بها أرجاء الحارة مزهوًا..وقبل أن يعودا إلى البيت الكبير يتوقف عند عربة عم شكري بائع الأيس كريم ليشتري لها ولنفسه قمعين من الأيس كريم يتلذذان بأكلها وهما في الطريق ..إلى البيت حيث يجد أمه وخالته في انتظارهما وهما قلقتان عليهما ويتوعدانهما بالضرب..وحين كبرا سبقها هو إلى كلية الطب ثم لحقت به بعد ذلك لنفس الكلية..وشعر بمرور الأيام أن بينهما ذلك الإحساس بالتقارب وإن ثمة وجود لخيط سري يربط حياتهما معا..ويجعلهما حينما يتقابلان يتصافحان بحرارة ويتبادلان نظرات الشوق..وكان بينهما أشياء كثيرة مشتركة يودان الإفصاح عنها..لم تكن جميلة ولكنها تملك قلبًا عطوفًا ونفسًا سمحة متفائلة ..وتزوجا بعد أن تخرجت هي من الكلية ورافقته العمل في المستشفى الكبير هو كطبيب عام وهي طبيبة للأطفال..أحس كل واحد منهما أنه يكمل صاحبه..عشر سنوات مضت على زواجهما تخللتها العديد من الأشياء الصغيرة التي أوحت إليها مع مرور الأيام أنه يمر بحالة من التوتر التي لا تعرف أسبابها..ذات صباح قال لها وعيناه تفتشان في أعماق عينيها وقسمات وجهها الذي تغلفه الحيرة والصمت الكثيف..يبدو أننا على مفترق طرق..وأن كل واحد منا لا بد أن يستريح..لا بد أن نستريح قبل الخطوة التالية..شعرت هي بما يعانيه من سأم وضجر ورغبة في الانطلاق..قالت له في هدوء من حق أطفالنا أن يعيشوا في سعادة ومن حقك أن تفكر فيما تصنع..لقد حاولت كثيرًا من جانبها أن تعرف أسباب انزعاجه وتذمره من مجريات حياتهم الزوجية، ولكنها فشلت وكانت كلما ازداد صبرها وحنانها وتلمس الأعذار له يزداد رغبة في الثورة.. ويغادر المنزل غاضبًا..كما غادره آخر مرة..كانت الساعة تقترب من التاسعة مساء حين دق جرس الشقة فتحت ابنته الصغرى الباب..صرخت وهي تحتضنه..ماما..بابا..جاء من السفر..سارع باقي الأطفال للإحاطة به واصطحبوه في فرحة غامرة إلى غرفة المعيشة..انسابت في الهواء عطور الترقب والفضول ..قالت وهي تدخل مرحبة مرتدية فستانًا بلون الأشجار حين تمسها نسائم الربيع..وعلى وجهها ترتسم أعذب ابتسامات الشوق ونداءات البهجة والفرح.
لقد أعددت لك فنجان القهوة الذي تحبه..أعفته كلماتها من البحث عن كل ما كان يجول في داخله من أسئلة..ومنحته عيناها ما يرضيه ويكفيه من إجابات عما لم تسعفه الكلمات أن يقولها..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى