جدارية شاعر

صورة للذكرى

حكاية

رائحة الفجر تملأ الحياة من حولها بركة وبهجة وسعادة..أخذت نفسًا عميقًا، وهي تستيقظ على صوت الأذان يعلن بداية يوم جديد..كان ضوء الصباح قد بدأ يتسرب من خصاص النافذة عندما انتهت من قراءة وردها اليومي من القرآن الكريم وأذكار الصباح والمساء ثم قامت لأداء صلاة الشروق..كانت الساعة تقترب من السابعة حين اتصلت بابنها البكر؛ لتطلب منه أن يرافقها إلى المطعم الصغير الذي تعوَّدت أن تذهب إليه صباح كل يوم جمعة بصحبة أبيه -رحمه الله- لتناول وجبة الإفطار ..جاءها صوته مليئًا بالنعاس، وهو يعتذر لأنه سبق ووعد أطفاله وزوجته ليذهب معهم ..قبلت اعتذاره.. لا بأس سأتصل بأختك رقية ربما تذهب معي هي وأطفالها .. وربما أذهب لوحدي مع الشغالة والسائق.. وقفت أمام المرآة مشطت شعرها وغيرت ثيابها ولبست فستانًا واسعًا بأكمام طويلة.. رشت بعض العطر ثم فتحت ستائر الغرفة، والنوافذ الزجاجية وتنفست الهواء في عُمق.. لبست عباءتها ثم شدت قامتها، مشت في خطوات بطيئة، وهي تستند إلى يد خادمتها..نزلت من البيت وقد اقترب الوقت من الساعة الثامنة..جو الصباح الباكر يشيع في النفوس بهجة تنعش الأحاسيس والمشاعر ..كان شارع الكورنيش يموج بالسيارات، والناس توقفت بها السيارة عند مدخل المطعم المطل على الساحل الأزرق الجميل المستلقي تحت أقدام عروس البحر الأحمر .. سارت قليلًا … دفعت باب المطعم ..واختفت داخله..ليس هناك أجمل من مكان مكيف الهواء وسط هذا الجو الرطب الحار .. طافت عيناها بأرجاء المطعم..كانت تجلس معه هنا وهناك .. على كل مقعد من مقاعدة مرسومة ذكريات ردح من الزمن الجميل.. أين مني شارع الكورنيش بذكرياته القديمة وفرحة اللقاء، وهمسات العيون وتشابك الأيدي.. أين راحت الأيام المزهرة بأفراح الود والمحبة النابضة بطموح الشباب المليئة بتطلعات المستقبل..لم يبقَ منه إلا الذكريات التي تجعلها تأتي إليه بين فينة وأخرى في الصباح الباكر؛ لتستنشق نسمة هواء محملة بأريجه المبهج .. ضغطت على زر الذكريات لتتوقف عن الهطول على مخيلتها لتنصت إلى صدى كلماته، وهي تتردد في أرجاء المكان كأنها وليدة اللحظة.. كلمات مُفعمة بالفرح والسعادة .. والحزن أحيانًا .. اختارت لنفسها وللخادمة مقعدين متجاورين .. وطلبت وجبة الإفطار التي تعوَّدت أن تتناولها معه.. فتحت حقيبة يدها وعبثت بالأشياء التي بداخلها .. أخرجت منها مجموعة من الصور..تنهدت بعُمق وهي تمسح الغبار عن إحداها .. ارتعشت الصورة بين يديها .. تأملتها بشغف أنها صورة تجمعهما معًا يوم تقدم لخطبتها قبل أكثر من أربعين عامًا.. لمست تفاصيل الصورة ببطء .. تأملت وجهه وهو يجلس إلى جوارها كانت عيناه تومضان بإشراقة الحياة ..كم كان وسيمًا مليئًا بالحيوية ..فيما كانت هي هي تبتسم في سعادة، وعيناها تشعان بأحلام قادمة.. وقد انسدلت خصلات من شعرها الأسود الفاحم؛ لتحيط بوجهها الأبيض النضر وتنثال على كتفيها في دلال..وقد ارتدت فستانًا أخضر قصير الأكمام يضم جسدها برفق تحت شال عريض أبيض..وحولها كل أفراد العائلتين تزغرد قلوبهم وألسنتهم بالفرح بينما عبد الحليم حافظ يصدح بأغنية (وحياة قلبي وأفراحه) وحين أرادت أخته أن تلتقط لهما صورة تذكارية للمناسبة…قالت لهما ضاحكة .. اقتربا من بعضكما وابتسما..أطاعتها واقترب هو منها وامتلأ بعينيها وثمل بعطرها وهتف؛ كأنه ينشد بيتًا من الشعر .. كم أنت جميلة ورائعة .. أجل لقد كبرت الطفلة الصغيرة ذات الابتسامة الحلوة التي يعرفها وأصبحت عروسة .. امتلأت عيناها بالدموع وهي تتحسس الصورة بأصابع مرتجفة.. آه .. كم هي مجنونة دائمة البكاء تعبر به عن مشاعرها في حالة الفرح ..والحزن.. يجب عليها أن تجد طريقة أخرى لجعل السعادة تعبر عن نفسها بشكل يختلف عن حالتها وهي حزينة..إنها تعرفه ويعرفها حق المعرفة من قبل أن يتقدم لخطبتها..لقد تجاورت الأسرتان عمرًا بأكمله..كان هو يسكن مع أسرته التي تملك البيت المقابل لبيتهم لا يفصلهما سوى برحة صغيرة ..وكان يبدو على أسرته أنها على شيء من اليسر .. لم تكن أسرة غنية ولكنها متوسطة الحال مثلها مثل عشرات الأسر الأخرى في الحارة.. وهي هنا منذ ان ولدت..كانت أمه وأمها تتزوران وتربطهما علاقة ممتازة ..كانت البرحة التي تتوسط البيوت المتلاصقة تجمع أهل الحارة في مناسباتهم المختلفة كما تجمع أطفالها الذين يلعبون الكورة ويتنافسون على لعبة المدوان والبرجوه، ويعودون إلى منازلهم وقد اتسخت ثيابهم من اللعب في التراب، وانتفخت جيوبهم بما كسبوه من حباتها الزجاجية الملونة..بينما كانت بنات الحارة وهي إحداهن يتبارين فيما بينهن في لعبة البربر والسبع حجار والزقيطة كما يتبارين في لعبة نطة الحبل؛ حيث تظهر كل واحدة منهن براعتها في القفز بقدم واحدة في رشاقة..وبعد غروب الشمس تأتي سيارة الأيس كريم تسبقها أنوارها الملونة وأنغام بوقها الموسيقي يدعو الأطفال فيتحلقون حولها ليشتري كل واحد منهم قمعًا من الأيس كريم لا تزيد قيمته على رُبع ريال..ثم يتفرقون ويدخل كل واحد منهم منزله ..كان هو صديقًا لأخويها وزميلًا لهما في الدراسة منذ المرحلة الابتدائية، وكان كثير التردد على منزلهم وكان أبوها وأمها كثيرًا ما يثنون على ما يتحلى به من أخلاق عالية ..وحين أنهى المرحلة الثانوية من دراسته والتحق بكلية الهندسة بالجامعة كانت هي تنهي المرحلة الابتدائية وامتنعت عن الخروج إلى البرحة للعب مع صديقاتها من بنات الجيران..وحين أكمل دراسته الجامعية كانت هي تتأهب لدخول كلية المعلمات بعد أن أنهت المرحلة الثانوية.. كانت كثيرًا ما تراه بصحبة إخوانها وتسمع كثيرًا من ثنائهم على تفوقه ونجاحه بامتياز في جميع المواد ..في إحدى المرات لمحته وهو يقف وحيدًا في بلكونة منزلهم ووجدته يرفع يده بالتحية عن بُعد.. فردت عليه التحية بمثلها وقلبها يبادله الابتسام..وغادرت مكانها وتركته.. وفي اليوم التالي أخبرتها أمها أن جارتهم أم خالد ستأتي غدًا لزيارتهم ..وألمحت أنها ربما ستأتي لخطبتها لابنها .. وطلبت منها أن تكون جاهزة لاستقبالها ..شعرت بسعادة غامرة وهي تنصت لتعليمات أمها.. وتزوجا.. وسافرت معه في بعثة إلى أمريكا ليكمل دراسته العليا.. كانت لا تزال فتاة غرة حينما حملت بأول أطفالها ..لا تعرف الكثير عن أسرار الحمل ومتاعبه..في أول زيارة للطبيب ذهبا معًا… كانت قلقة ومتوترة.. استلقت على طاولة الكشف بحذر..وضع الطبيب السماعة على بطنها.. مضت لحظات من الصمت ..قبل أن تأتي ابتسامته .. وهو يضع طرف السماعة على أذنيها.. إنها نبضات قلب الطفل.. تك .. تك .. تك.. زال الوجل ورحل التوتر وأشرق وجهها بالفرح وزوجها يحضنها بسعادة.. ويحمد الله..ومرت الأيام وتعاقب الأولاد تباعًا، وكبروا وتفرقوا بعد أن تزوجوا وبقيت هي وحيدة ذكرياتها معه بعد أن غادر حياتها إلى الأبد، وترك لها ولدين وبنتًا ..والبيت الذي تسكنه ومعاشه التقاعدي بعد خدمة استمرت أكثر من خمسة وثلاثين عامًا..نفضت عيناها المتعبتان من اجترار الذكريات على صوت الخادمة، وهي تحضر لها الطعام ..أعادت الصورة إلى حقيبتها..تناولت الطعام واحتست ما تبقى من كوب الشاي بالحليب ..ثم نهضت واتكأت على كتف خادمتها وتحركت إلى الخارج بخطى متمهلة…شجعتها رؤية الناس وهم يمشون على الكورنيش أن تمشي قليلًا قبل أن تسارع بالجلوس على أول مقعد صادفها…كانت انعكاسات أشعة الشمس الدافئة تتوهج في الأفق وثمة قوارب صغيرة تنطلق بأصحابها طلبًا للرزق وهواء البحر يلفح وجهها بنسماته الطرية، أغلقت عينيها وراحت في غفوة، أفاقت منها على نغمات شجية لأم كلثوم .. آتية من بعيد…
(أيها الساهر تغفو
تذكر العهد وتصحو
وإذا ما التأم جرح
جد بالتذكار جرح..
فتعلم كيف تنسى.
وتعلم كيف تمحو..)
اعتدلت في جلستها، وأسندت ظهرها إلى المقعد، وملات رئتيها بهواء البحر.. أخرجت جوالها من حقيبة يدها.. دق قلبها بعنف وهي تطلب رقمًا حفظته ذاكرتها منذ سنوات بعيدة…جاءها الرد الآلي.. أن الهاتف المطلوب خارج الخدمة ولا يمكن الاتصال به الآن..نرجو الاتصال في وقت آخر ..انسابت من مقلتيها دمعة مكنونة لم تستطع إيقافها؛ فانساحت ساخنة على وجنتيها..وكأنها في سباق إليه.. غادرت المكان وعيناها تلاحقان طائرة ورقية بألوان قوس قزح يحرك خيوطها بأصابعه طفل صغير وقف وحيدًا على الشاطئ..
عبد العزيز التميمي- جدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى