المقالات

سيّدةٌ من غناء!

قد نتلمّس في الجدل حول الشعر، رغم ما يتيحه الذوق الفني من رحابة ومشروعية في الاختلاف، شعرية أخرى، تستند على مفارقة التلقّي، كأن تجد ناقدا خبيرا ببحور الشعر العربي الأصيل، لكنه يغرق في شبر ماء، بعدم استيعاب الصور الجديدة على ذوقه غير المدرّب على هذا النوع من الشعر الحديث.
ولأنّ الشعر الممتع لا يتعلّق بمذهب شعري ولا بزمن قديم أو حديث، وإنما بما ينتجه من بناء فني أو صور بديعة أو أفكار لطيفة تلفت إلى نباهة الشاعر وعبقريته في إثارة الجدل بما يدهش أو يستفزّ القراء، فقد لفتني نص شعري أثار جدلا واسعا بسبب جملة شعرية مكونة من ثلاث صور كانت هي مثار الاهتمام دون سائر النص، والسبب في ذلك أنها كانت غير متسقة مع المنطق الواقعي الذي اعتاد عليه كثير من قرّاء الشعر ممن يتلقّون الصور وفي أذهانهم واقع خارجي، أو يشترطون واقعا موضوعيا تحيل عليه الجملة الشعرية بصورها الثلاث: يد غضة، وقط يطير، وبحر يجلس القرفصاء.
دار الجدل حول هذه الصور في نص عائشة السيفي التي توّجت باللقب في برنامج أمير الشعراء.
قصيدة تفعيلية، بنيت على الألف الممدودة، فكانت في امتدادها أعذب للترنم والغناء.دلفت الشاعرة إلى النص بعبارة مفتاحية تكررت في النص على امتداد القصيدة: وما حاجتي، وكأنما تعلن غنى واكتفاء من كلّ شيء، وقد امتلكت كل ما تشتهي، فهي سيدة من غناء، وهي تمتد في كون فسيح، ملأته بها، فصار البحر أرجوحة والسماء سريرا، في صورة كلية هي خلفية النص. كل ذلك وهي تترنّم باكتفائها وثرائها الذاتي: وما حاجتي.
ذلك الشعور الذي وهبها حقيقة مختلفة تفعل بها ما تشاء، تشكّل عالمها في حلم شعري بامتداد الفضاء.
هكذا كان الإيقاع في امتداد نفَسه يعزز هذا الجوّ التخييلي: غناء، سماء، هواء، إلى آخر هذه الكلمات التي تصعد إلى الفضاء، ما يعني أن الشاعرة لم تترك شيئا في جسد النص لم توظّفه لرؤيتها في عبورها على الكلمات والمجازات، فامتلكت بمنطق النص أن تفعل ما تشاء، بعد أن راضت كلماته وروّضت مجازاته لتكون سيّدةً من غناء.
بدأ النص بهذه العبارة وانتهى بها. سيدة من غناء، في حركة دائرية، وفضاء تفعيلي أتاح لها أن تحقق رؤيتها كيفما شاءت دون أن تغادر إيقاعه وأثر قافيته التي منحت النص امتدادا يناسب الفضاء الدلالي في النص، فضاء تعززه الكلمات والصور: سماء، بحر، نجوم، ليل، ظلمات.
وفي منتصف النص، في المنتصف تحديدا، نفثت بروحها الشاعرة ثلاث عبارات، هي صور خارج المنطق العقلي: يد غضة تفرك الغيم، قط يطير برجلين، بحر يجلس القرفصاء، لكنها لم تكن غريبة عن منطق النص بعد كل هذا الحشد للصور المنتقاة باقتدار، ولم تكن غريبة على الخيال الحرّ الذي يشكّل الحقيقة كما يشاء، استجابة لشاعرة أرادت ذلك بوعي كتابي وشعري جعل هذه العبارة هي موضع التوتّر الشعري وموضع التلقّي والانتباه من المتلقّي الذي انشطر إلى فريقين: فريق متأمّل وفريق متنمّل.
وما يعنيني هنا هو الفريق المتنمّل الغارق في شبر ماء، الذي يريد أن يبقى حبيس ذائقته الشطرية، رغم أن الشعر الشطري لا يرفض هذا التجدد في الصور ولا في البناء، إذا ما وجد شاعرا عظيما يستطيع أن يعلو على الراوبط المنطقية والدلالية بحصافة البناء النصي، كما فعل المتنبي في مطلع لاميّته:
في الخد أن عزم الخليط رحيلا
مطرٌ تزيد به الخدود محولا
فأي مطر يمكن أن يحدث جدبا ومحولا لولا أن الشاعر أعاد بناء عالمه في خيال طريف؟!
كانت الشاعرة عائشة السيفي متسقة مع بنائها النصي وهي تضع إشارات لغوية وعلامات لحلمها الشعري الذي شكّلته بطريقتها الخاصة:
وما حاجتي للحقيقة إن كنت أنحتها بيديّ كما أشتهي تارةً تلوَ أخرى، ولي من مآربها ما أشاء:
‏(يدٌ غضّةٌ تفرك الغيم، قطٌّ يطير برجلين، بحرٌ على تلّةٍ يجلس القرفصاء)
‏هنا تتجلّى مشيئة الشعر في تشكيل صوره بإدهاش فيما يشبه الحلم المركّب من عناصر الوجود.
‏ثلاث صور لا تبدو نشازا في بناء النص، هي مآرب الشاعرة التي شاءت لها لغتها أن تقذفها في قلب النص، لتحدث كل هذا الجدل، رغم أنها لم تكن، فيما يبدو، غير مشغولة إلا بعالمها الشعري الذي بلغ ذروته في هذه العبارة، كما لو كانت حالة انتشاء تعالت فيه اللغة على الروابط المنطقية للأشياء، أو حالة صوفية خالصة، لم تعد فيها الأشياء هي الأشياء، بتعبير الفيتوري.
ومما يلفت في العبارة موضع الجدل أنها جاءت على نسق مختلف عن سائر النص، فالجمل كلها في النص سيقت بالواو، عدا هذه الصور التي جاءت هكذا ملقاة بالفصل، وفي نزع الواو من بين الصور وعي من الشاعرة بأنّها تسرد حلما أو لحظة فارقة بلغت فيها ذروة النخب الشعري والخيال القصيّ المفارق للحقيقة الواقعية: يد غضة تفرك الغيم، قط يطير برجلين، بحر على تلّة يجلس القرفصاء.
فمن يحاسب الشاعر على حلمه؟ من يستطيع أن يضع يده في ذاكرة الحلم الشعري ليغيّر منطقه ويحبس أفقه الفسيح؟ أو حتى يحاصره بالواقع المنطقي الرتيب؟.
لقد نجحت الشاعرة رغم اتساع الفضاء التفعيلي أن تغرق المتلقّي العاديّ في شبر ماء، وأن تشغله بهذا الحلم وتركيبته المتوتّرة داخل النص عن فضاء أوسع هو فضاء النص الشعري المغرق بغنائيته وامتداده منذ أن تجاوز لحظة البكاء الطويل التي ربما بدأها امرؤ القيس في مطلع الشعر إلى أن جاءت هذه السيدة لتقف على تلّة الشعر هذه المرة بفعل جديد تجاوز البكاء إلى الغناء، واستطاع أن يجمع أطراف البحر على تلّة ليجلسه القرفصاء!

تعليق واحد

  1. الله يادكتور سعود على هذا التجلي ، والوعي ، الذي يشفي غليل الشاعرة عند المتلقي ، ويخاطب ( حدسه ) كما يقول محمد الثبيتي
    كنتُ كتبتُ تعليقا على موضوع الشاعر / عبدالله الصيخان / في الفيس بوك حول القصيدة مانصه(هذه اللغة الشعرية تتحرر من دلالتها الأصلية ، والصورة الفنية نقيضة الواقع ؛
    يقول الثبيتي:” حلمي لاعلاقة له بالواقع، قصيدتي ترسم واقعاً نقيضاً ، هو الحلم في النهاية”
    وهنا تظهر لنا براعة الشاعر في إحالة الواقع إلى نقيضة ، وإثارة دهشة المتلقي ، بصورة فنية غير مألوفة، وهذا هو الإبداع.”
    وها أنت تبدع في محيط الإبداع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى