المقالات

شمس السلام تشرق من الصين

قال صاحبي: دون مقدمات، كُشف الستار عن التقارب السعودي الإيراني من بكين، تزامن معه الكثير من التساؤلات، عن الموقف الأمريكي، وهل الصين دخلت في نفوذ غريمتها أمريكا، وهل نحن فعلًا أمام قطب عالمي جديد، وهل أحاطت الرياض واشنطن بهذه المفاوضات كما تزعم الأخيرة، وما انعكاسات هذا التقارب على ملفات المنطقة، وما السيناريوهات المحتملة لتنفيذه، وهل سيصمد طويلًا أمام التحديات الكثيرة؟ وغيرها من التساؤلات التي كانت تبحث بالفعل عن إجابة من هنا وهناك.
يوم الجمعة 18 شعبان 1444 الموافق 10 مارس 2023، لم يكن يومًا عاديًا في تاريخ المنطقة، فبعد أربعة عقود من المد والجز، هدأ الموج على ضفتي الخليج، ولا شك أن هذه الحركة الكونية غير المتوقعة في الشرق العربي كانت لها ارتداداتها ربما العنيفة في الغرب، بعد أن رفرفت حمائم السلام بأجنحتها فوق مياه الخليج ارتفع الموج في نيويورك، حد الغرق، فبادرت واشنطن للترحيب بهذا الصلح كنهج دبلوماسي أمريكي، من باب (إذا كان زادك مأكولًا فرحب).
قبيل الإعلان عن هذا الاتفاق بساعات كنتُ على إحدى القنوات الأجنبية الناطقة بالعربية، فسألني المذيع: عن قول كسنجر على أعداء الولايات المتحدة أن يخشونها، وعلى أصدقائها أن يخشونها أكثر؛ ولذا أبلغت الرياض موسكو بمضمون مقولة كسنجر وصوتت مع انسحاب روسيا من الأراضي الأوكرانية!! فأجبته أن السعودية صوتت مع القرار انطلاقًا من إيمانها برفض ضم أراضي الآخرين بالقوة، وبضرورة الاحتكام إلى القوانين الدولية، وأردفت ردي عليه بقولي إن الرياض لم تبنِ وجودها وقوتها على أمريكا أو غيرها. السعودية وجدت قبل أمريكا، وتمتلك الحنكة السياسية، فهي بيت حكم من ثلاثة قرون تكونت لديها خبرة تراكمية تجعلها تتعامل مع الأزمات والمواقف المختلفة، بدهاء سياسي فريد.
ففي الوقت الذي كانت تجري فيه مفاوضات متعددة الجولات في بغداد ومسقط، ولقاءات على هامش قمة بغداد2، وميونخ للأمن، وجولات وزير الخارجية في بعض العواصم الأوروبية وصولًا لكييف وموسكو، لتقديم الوساطة في الحرب الأوكرانية، كان هناك فريق سعودي يقود مفاوضات في الجزء الأخير من العالم تكللت بنجاح لم يكن يؤمن به أكثر المعنيين بملف العلاقات السعودية الإيرانية، والأهم أنه برعاية صينية، والأكثر أهمية أن الجميع لم يعلم به إلا بعد اعتماده، وإعلانه.
كان هذا الاتفاق إحدى ثمار زيارة الرئيس الصيني للرياض، وباكورة إعلان الصين عن نفسها كقطب سياسي على مسرح الأحداث، وبتغير المشهد السياسي القائم على السيطرة على العالم، إلى معادلة جديدة؛ عالم نحن جميعًا شركاء فيه، صحيح أن أمريكا هي الرقم الصعب، والعلاقة الاستراتيجية معها مهمة ومثمرة، ولكن أمريكا التي نعرف منذ عهد روزفلت إلى عهد جورج بوش الأب، انتهت، وبدأت أمريكا جديدة غير تلك التي خبرناها، فبعد تفكك الاتحاد السوفيتي 1991، تفككت الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن ليس بشكل ظاهر وتخلت عن عقائدها المعروفة عنها، وبدأت بانتهاج مقاربات عدائية، أو استفزازية مع حلفائها التقليديين، وأصدقائها، وأصبحت تدير المشاكل، ولا تحلها، ليس لأنها لا تستطيع، بل لأنها لا تريد.
في المقابل كانت سياسة الصين تدعو إلى الحوار بدلًا من المواجهة، وأن لا سلام عالمي دون حل أزمة الشرق الأوسط، كما تُطالب ببناء مجتمع دولي قائم على المشاركة وليس التفرد بمصير العالم، وهذا ما حدث بالفعل، فبعد إصدار الوثيقة المشركة مع موسكو، ثم المبادرة للدعوة للحوار بين السعودية وإيران، قررت بكين الانخراط التدريجي في إدارة العلاقات الدولية، وبدأت الأولويات السياسية تزاحم الأولويات الاقتصادية، وعليه يشكل هذا الاتفاق بين قطبي الخليج العربي، نقطة تحوَّل مهمة جدًا في تاريخ الصين السياسي الحديث؛ لذا ستحاول أن تحافظ على نجاحه، فهو يعني لها الولوج إلى مرحلة جديدة، وطي صفحة السياسة التقليدية التي كبلت التنين الصيني.
أخيرًا؛ يشكل هذا الاختراق الدبلوماسي بين الرياض وطهران، انتصارًا للسلام، وإنجازًا سياسيًا، بعد أن تناول جميع القضايا المسكوت عنها، قبل المعلنة، يعقبه سلسلة من الإنجازات الأمنية، والاقتصادية، والعلمية، فكلفة السلام أقل من أكلاف الخصام، فإيران لا تستطيع إزاحتنا من الجغرافيا، وإخراجنا من التاريخ، ونحن كذلك، حقيقة يجب إدراكها، وتوجيه المقدرات المادية والبشرية من أجل الارتقاء بالمنطقة وتحويلها إلى أوروبا الجديدة كما قال سمو ولي العهد.

قلت لصاحبي:
هذا الاتفاق سيواجه بتحديات كثيرة، ولغايات متعددة، منها إفشال الدور الصيني، ومنها عودة القلق والتوتر إلى المنطقة، حتى تتمكن القوى الأخرى من تغذيتها، والإمساك بخيوطها، وتوجيهها بما يتفق مع مصالحها الخاصة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى