جدارية شاعر

جامع القمامة

حكاية

ينهضُ قبل أذان الفجر يتوضأ ثم يغادر إلى مسجد الحي ليؤدي صلاة الفجر..وبعد الخروج من المسجد يتوقف عند أحد مطاعم الفول الشعبية؛ للتزوَّد بوجبة إفطاره المعتادة فتشيع الدفء والنشاط في جسده النحيل، وتعينه على البدء في أداء عمله الذي يتطلب منه المشي لمسافات طويلة يمتد وقته من طلوع الشمس حتى الغروب. يجمع علب العصائر والمشروبات الغازية التي يرمي بها الناس في الشوارع والطرقات ومن حول المدارس أو يستخلصها من جوف الحاويات التي تمتلئ بأكياس القمامة المنزلية مختلطة ببقايا الأطعمة ومخلفات الطبخ وبقايا القصدير، وبعض الملاعق والشوك والسكاكين التي تنساها الخادمات أو ربات المنازل ..إضافة لجمع بعض المخلفات المعدنية الأخرى من الحديد والألمنيوم وغيرها من المواد الصلبة القابلة لإعادة التدوير..وبيعها لتجار الخردة في سوق الحراج…في أحايين كثيرة من الصباح الباكر كان يشاهدها أثناء جولته في الحي الذي تسكنه وهي تخرج من باب منزلها مسرعة كعصفور أطلق سراحة، وتمضي مسرعة نحو حافلة المدرسة التي تصل صباح كل يوم في موعدها المحدد، وينتظر سائقها للحظات معدودة وهو يطلق العنان لبوق سيارته المبحوح؛ ليستعجل خروجها لتنضم إلى زميلاتها اللواتي يتضاحكن في سعادة وحبور..كان هو يشعر بسعادة لرؤيتها وإن كان واثقًا أنها لا تلقي له بالًا..إنها لا تتجاوز الرابعة عشرة من عمرها لها ضفيرتان معقودتان خلف ظهرها تكادان تصلان إلى خصرها الناحل وتحيط برقبة طويلة في لون القمح .. تقاطيعها مليحة وعيناها عسليتان تعبران عن شقاوة طفلة مدللة هي وحيدة أمها تلك السيدة الكريمة التي ما أن تراه واقفًا على ناصية الشارع حتى تبادر إلى تحيته وتمنحه بعض ما أعدته لنفسها من ساندوتشات وقارورة ماء باردة؛ إضافة لمبلغ من المال ثم تصعد السياره التي تقلها إلى عملها..
في ذلك الصباح لاحظ وحافلة المدرسة تمضي مهرولة أن ثمة قطعة معدنية سقطت من معصم الفتاة، وهي تصعد إليها..اقترب من المكان وحدق النظر إلى الأرض..إنها قلادة معدنية..ربما تكون قلادة ذهبية ثمينة..تلفت حوله ..تأكد أن أحدًا لم يشاهده وهو يلتقطها..بسرعة دسها في جيب بنطلونه..حدث نفسه أن يقدمها هدية لأخته الصغيرة….لا..لا ..بل سأخذها لتاجر الخردة ربما يمنحه مبلغًا كبيرًا ثمنًا لها يعطيه لوالدته لتسدد به جزءًا من إيجار المنزل الذي يسكنونه..فكر للحظات ثم تراجع عن هذه الأفكار.. قائلًا لنفسه: ولم لا أعيدها لصاحبتها..كم أسعدته هذه الخاطرة..وراقت له فابتسم جذلًا…أدخل يده في جيبه؛ ليتأكد من أن القلادة لازالت قابعة في جيب البنطلون..وراح يتخيل الفتاه الصغيرة وهي تبكي لفقد قلادتها ومدى فرحتها وسعادتها وهو يعيدها إليها ..ترى هل هي تعرف البكاء مثله.. إنه أكبر منها بسنوات قليلة.. لقد بكى منذ يومين بحرارة لأنه فقد خمسين ريالًا بكاملها منحها له تاجر الخردة ..ولكنه بكى بحرقة أكبر يوم أخرجته أمه من المدرسة الابتدائية بعد وفاة أبيه؛ ليساعدها وإخواته في مصروفات المعيشة..صلى العصر في المسجد القريب من المنزل ..جفف حبات العرق العالقة فوق جبينه حرك قدميه المتعبتين بتثاقل وأصلح من هندامه قبل أن يضغط بأصابع وجلة وعينين متلهفتين على جرس الفيلا..انتظر قليلًا قبل أن يسمع صوتًا يجيب على ندائه..مين؟ إنه صوت فتاته الصغيرة ذات الضفيرتان..أجابها بصوت خافت..أنا.. فتحت الباب على مصراعيه وقد ارتسمت على وجهها العديد من الأسئلة قبل أن تجيب على سؤال والدها الآتي من بعيد عن الطارق ..قائلة: إنه الولد جامع القمامة..جاءه صوت الأب قولي له ليس عندنا شيء نعطيه له … وقبل أن تبلغه الفتاة رسالة والدها أخرج من جيب البنطلون القلادة، وهو يقول لها مبتسمًا يبدو أنها سقطت منك هذا الصباح، وأنت تهمين بركوب حافلة المدرسة.. أطلت من عينيها ملامح فرحة غامرة وصرخت ماما .. بابا.. الولد جامع القمامة وجد الأسورة الذهبية..سارع الأب بالمجىء ولحقت به أمها وهما يتضاحكان بسعادة متناهية..داخله شعور بالزهو ووالد الفتاة يمتدحه ويهنئه على أمانته..ويدعوه للدخول إلى المنزل بينما راحت الأم تلهج بالدعاء له، وهي تطلب منه الجلوس على أحد المقاعد الوثيرة الأنيقة، وتقول له لقد أسعدتنا جميعا يابُني بإعادة الأسورة..استرح قليلًا سأحضر لك بعض الطعام والحلوى. من بعيد تناهى إلى سمعه صوت الفتاة، وهي تطلب من أمها أن تمنحه مبلغًا سخيًا مكافأة له..قالت الأم سنمنحه مائة ريال، قالت البنت بل نمنحه مائتين ريال..ما أطيب قلب هذه الفتاة الصغيرة، وما أنبل مشاعرها لا شك أن للقلادة مكانة عزيزة وغالية في نفسها كم يود أن يهمس لها أن فرحتها المتدفقة الصادقة بقلادتها تكفيه عن أي مكافأة يحصل عليها مهما بلغت..غادر المنزل سعيدًا بما حظي به ثناء الأب والكلمات الرقيقة والدعوات الطيبة التي أغدقتها عليه أمها الكريمة والمكافأة الجزيلة التي منحتها له..مضت أشعة الشمس تنتقل معه من مكان إلى آخر، وهو يحمل في طيات فؤاده سكونًا يذوب مع الحركة الصاخبة التي تشمل الطريق..أكمل مسيرته وهو يسحب خلفه عربته الصغيرة؛ بحثًا عن شيء يلتقطه من الأرض..تحول السكون إلى نوع من النجوى..نسي معها الطريق والبنايات والسيارات والناس..نسي كل شيء إلا وجه تلك الفتاة وسرح مع أفكاره..وهو يسمع من بعيد صوت نجاة الصغيرة يشدو..
القريب منك بعيد..
والبعيد منك قريب وقلبي اللي حبك لسه بيسميك حبيب..
وتساءل في داخله ترى ماذا قالت هي عنه.!!!
– جدة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى