الثقافيةتحقيقات وتقارير

صلاح جاهين.. حكاية شاب عمره ألف عام

“أبو صلاح”، شاعر الثورة الذي قتلته زوزو، ففي كل عام، وقبل أن يطن في الآذان نشيد الثورة.. يجيئني صلاح جاهين في «الصحو» مبتسما واثقا، يرقص رقصته المعتادة وهو يغني:

«أنا اللي بالأمر المحال اغتوى

شفت القمر.. نطيت لفوق فى الهوى

طلته.. ماطلتهوش

إيه أنا يهمني.. وليه..

ما دام بالنشوة قلبي ارتوى»..

صحيح إيه اللي يهم راجل عاش حياته سبع مرات.. قرأ الدنيا وخبزها وعجنها.. وسواها سينما ومسرح ورسم وغنا وأراجوز.

.غير شرايينه.. اكتأب.. انتحر.. مات.. وإيه يعني.. هو فيه شاعر عاش وهيعيش زى صلاح جاهين؟!

نعم هو الشاعر الوحيد.. رغم غزارة إنتاج مئات الشعراء في يوليو – الذي يمكنك أن تقول إنه شاعر يوليو.. شاعر الثورة.. هو الوحيد رغم أنه لم يبدأ الكتابة عنها ولها إلا بعد أربع سنوات كاملة من تحققها.. لقد سبقه الكثيرون منهم حيرم الغمراوي، وإسماعيل الحبروك، وحسين طنطاوي صاحب أغنية «ع الدوار» التي كانت ولا تزال تميمة أغنيات ثورة عبد الناصر ورفاقه، وهو الوحيد الذي جعل من لسانه صحيفة متجولة تنشر مبادئ الثوار لسنوات وتعبر عنها وتدافع عن تصرفاتها حتى ولو كانت خاطئة، وربما لهذا السبب وحده كان أكثرهم حزنا واكتئابا عقب هزيمة عبد الناصر ورفاقه في يونيو 1967.

لقد حزن المصريون جميعهم، وحزن العرب بأكملهم والشعراء في مقدمة الحزانى والثكالي، لكن جاهين اعتبر نفسه المسؤول عن الهزيمة.

وقد حكي النجم على الحجار أن جاهين عذب نفسه كثيرا في تلك المرحلة، كان مصدقا لحلم يوليو، ولهذا خرجت أشعاره وأغنياته صادقة تماما ولم يجد الطويل صعوبة في تلحينها مثلما لم يجد عبد الحليم حافظ صعوبة في توصيلها للناس ولأنه كان مصدقا شعر أنه خُدع وبأنه بالتبعية خَدع الناس وجعلهم يصدقون بأنهم سيشاهدون الأوبرا على الترعة، وأن جمال سيفوت على الصحراء تخضر.

كثيرون أدهشتهم الهزيمة ومنهم من نجا وعافر واقتنع بأنها – معركة – وأن الحرب مستمرة مثل الأبنودى وبليغ وكلاهما صاغ واحدة من أنبل أغنيات الهزيمة طمعا في النصر بعدها والتشبث بالحلم حتى آخر نفس.

وذهب سيد حجاب وآخرون لكتابة تنويهات وشعارات لصوت العرب تحضُ على المضي قدما في سكة حرب الاستنزاف.

لقد قال عمنا سيد حجاب إن الطويل وحليم اختاراه لكتابة أغنية عيد الثورة عام 1966، بعد اعتذار صلاح جاهين لأنه لم يجد لديه وقتها ما يقوله، وكان الاختيار بناء على ترشيح من جاهين نفسه، لكن خلافا وقع بين الثلاثي فعادت الأغنية مرة أخرى لجاهين الذي كتب «صورة» ويعلق عم سيد حجاب «الحمد لله أنني اعتذرت حتى تخرج لنا واحدة من أعظم وأروع إبداعات جاهين والثورة معا».

لقد فتح جاهين الباب لمعظم أبناء جيل الستينات من شعراء العامية، وكانت علاقته بهم غاية في النبل، سيد حجاب قال لي إنهم كانوا يثورون عليه كلما أخطأ النظام ويحملونه شططهم ورغباتهم وأحلاما أكبر وكان لا يغضب، بل إنهم بعد خناقاتهم معه، يذهبون معه يأكلون ويشربون ويمرحون ويبدعون، الوحيد الذي عاتبه جاهين من هذا الجيل على شيء كان أحمد فؤاد نجم، الذي عنفه جاهين لسرقته أشعار فؤاد حداد، هل تدرون ماذا فعل معه؟!

لقد ذهب نجم ليصافحه، وقال له: أنا أحمد فؤاد نجم صاحب ديوان «حكايات من السجن».. فقال له مش انت اللي سرقت فؤاد حداد.. اوعى تعمل كده تاني! هذا كل ما فعله جاهين لأنه كان يرى فيه شاعرا حقيقيا رغم ارتكابه لفضيحة!!

جاهين الأب.. هو الذي اخترع سعاد حسني.. كما أنه كان صاحب الدوار الذي عاش فيه كثيرون من نجوم الغناء والتمثيل في مقدمتهم مصطفى متولي وصبري عبد المنعم وأحمد زكى وشريف منير الذي تبناه جاهين تماما وقت أن كان يعزف على الدرامز.. شريف منير قال إنه كان يتولى كل شئونه، مال وتثقيف وأبوة. رجل بهذه المواصفات من الطبيعي أن يتلقف مبادئ ثورة مثل يوليو.. ومن الطبيعي أن يكون عبد الناصر القادم من بين أبناء الطبقة الوسطى ليثور في وجه فساد إقطاعي مقيم واحتلال مستديم.. من الطبيعي أن يراه.. وطنية.. وحرية.. وروحا للأمة العربية..

«يا ناصر.. الشعب يريدك

يا ناصر.. وإيدينا ف إيدك

نبنى سوا الأيام الجاية

الشعب يريدك يا حياته

يا موصل موكبه لغاياته

وحياة المصحف وآياته

اسمك ف قلوبنا أغنية»..

هناك من يرى أنه ساهم في تأليه عبد الناصر، لكن مَن مِن شعبنا الطيب في الريف والمدينة ممن التحقوا بمدارس الثورة لأول مرة، وزرعوا أراضيهم وهم ملاك لها غير مستأجرين، وأعتقت رقابهم من عبودية البرنسات والباشوات، كان يرى عبد الناصر مستبدا.

لقد تناغم جاهين مع الناس في الشوارع ورآه كما كانوا يرونه..

«يا باني السد العالي..

والكهربا في الريف بتلالي..

يا مخلص يا عظيم يا مثالي

تحميك القدرة الإلهية»

نعم كان عبد الناصر ولا يزال مخلصا ومثاليا في عيون الملايين.. وإلا بماذا تفسرون رفع صوره في كافة الاحتجاجات والمظاهرات منذ عام 2005 وحتى الآن.

عبد الناصر وجاهين صارا شيئا واحدا في الموسيقى والغناء للثورة، مثلما صار هيكل وعبد الناصر في الإعلام، كلاهما كان رجل الزعيم.. لكن صلاح عاتب نفسه.. فيما ظل هيكل يرى فيما حدث في 1967 مجرد «نكسة»

عاتب جاهين نفسه بالاكتئاب.. رغم أنه غنى لمصر.. لمشاريعها.. لحربها ضد المستعمر

«في ميعادك يتلموا ولادك

يا بلادنا وتعود أعيادك

والغايب ما يطقش بعادك

يرجع ياخدك بالأحضان»..

هل منا من يختلف معه في ذلك..

«ياما شفتك في البعد عظيمة

يا بلادي يا حرة .. يا كريمة

وزعيمك.. خلاكى زعيمة

في طريق الخير والعمران»

أشد أعداء عبد الناصر وتجربته لا ينكرون أنه بالفعل جعلها زعيمة.. حركة عدم الانحياز ظلت ولفترة طويلة سندا لكل الشعوب المقهورة.. وخنجرا في يد قوى التحرر في العالم الثالث.

«قول ما بدالك..

احنا رجالك

ودراعك اليمين

عبد الناصر يقول.. الله أكبر

ويوم الأزهر في وجداني

يا شعب قمنا لقهر الصعب من تاني

وعود ما عنديش

مفيش إلا النضال عندي

شقا ومعارك مريرة كتير يا اخواني»..

حتى لزمات عبد الناصر الخاصة حولها جاهين لأغنيات رفع شعاراته التي تحولت إلى طريق عمل ومنشور حرب..

«يا أهلا بالمعارك

يا بخت مين يشارك

بنارها نستبارك

ونطلع منصورين

ملايين الشعب تدق الكعب

تقول كلنا جاهزين

يا أهلا بالمعارك»

جاهين وجد في الثورة حياته.. ووجوده.. وخلاصه.. مثل كثيرين كانوا هم الأغلبية وقتها.. أغلبية لم تعرف الكلام الكبير من ذلك الذي كان يردده اليساريون الذين رفضوا حل تنظيماتهم ومنها «التنظيم الشيوعي الصيني».. هكذا أطلق عليه ومنها طلاب وإخوان وغيرهم كانوا يؤمنون بأن هناك أحلاما أكبر حان وقت تحقيقها.. فيما كان يرى ناصر وبعض رجاله أن الشعب يحتاج إلى خبز وديمقراطية حياة.. لا تنظيمات وأحزاب وكذلك رأى جاهين..

«توبة ما عاد فيها مجاملة خلاص

ولا عاد م الثورة الشاملة ملاص

يا إيدينا العاملة ازرعي إخلاص

واحصدي والرب .. يعين

احصدي وانفضي

اكشفي وارفضي

خاينين وانتهازيين

هنشق طريقنا بنور مبادئنا

ولنا النصر المبين»..

لقد توحد جاهين تماما مع ناصر والناس.. ونادرا ما يمكنك أن تجد أغنية له.. يتكلم فيها بصيغة فردية أو يخاطب ذاته مثلما هو الحال بعد هزيمة يونيو.. واتجاهه لكتابة أغنيات الأفلام.. وأولها «شفيقة ومتولي» التي ذهبت به إلى التراث الشعبي ليرى في شفيقة مصر التي تم اغتصابها.. دون أن يستطع أخوها متولي أن يأخذ بثأرها.. لقد تم تغيير سيناريو هذا الفيلم مرتين وكتب جاهين أغنيات مختلفة للفيلم الذي سبق وكتب له الأبنودى أغنيات أخرى قبل أن يصل لجاهين.. ومن بعدها خروجه على نفسه في رباعياته الحادة والقاطعة.. وأغنياته المرحة لزوزو.. لقد حاول جاهين أن يقتل نفسه بأغنيات هازلة فوجدناه يصنع لنا بهجة من نوع آخر لم يصنعها أحد غيره.

«خلى بالك من زوزو

زوزو النوزو كونوزو..

اسمع غناها..

وافهم لغاها..

دى زوزو كلامها نعوزو»..

هل هناك أي عبث أو هزل أو جلد للذات في هذه الكلمات.. أو في..

«الدنيا ربيع

والجو بديع

قفلي على كل المواضيع».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى