
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعظمَ الناس إدراكًا للواقع، وأشدَّهم فهمًا لموازين القوى؛ ففي مكة، حيث كان أصحابه يُعذَّبون أمام عينيه، لم يرمِ حجرًا، ولم يرفع سيفًا، ولم يفك قيدًا عن أحدٍ من المستضعفين، بل كان يُصبّرهم ويواسيهم، فكان يقول لآل ياسر: «صبرًا آل ياسر فإن موعدكم الجنة». لم يكن ذلك عن عجز، وإنما عن وعيٍ بأن المرحلة المكية مرحلة صبرٍ وتأسيس لا مواجهة عسكرية، وأن أي فعلٍ طائش آنذاك كان سيجلب على المسلمين استئصالًا قبل أن يشتد عودهم.
وعندما جلس صلى الله عليه وسلم إلى صلح الحديبية، قبِل بشروطٍ رآها بعض أصحابه دنيّة وإهانة، حتى قال بعضهم: «ألسنا على الحق؟ فكيف نعطي الدنيّة في ديننا؟» إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان ينظر إلى المآلات البعيدة؛ فقد علم أن التنازل في الظاهر قد يفتح الباب لنصرٍ باطن. فجاءت الثمرة بعد سنتين فقط: فتح مكة ودخول الناس في دين الله أفواجًا. بل إن من أعظم نتائج صلح الحديبية أن الحرب توقفت عشر سنوات، فأمِن النبي صلى الله عليه وسلم، على المدينة وتفرغ للدعوة، فانطلق يرسل الرسائل إلى الملوك، ويخاطب القبائل، ويقيم جسور الدعوة خارج الجزيرة، فدخل الناس في دين الله أفواجًا. لقد كان فعّالًا وصاحب مشروع ورسالة، استثمر فترة الصلح ليحوّلها إلى فرصة استراتيجية كبرى لبناء الدولة وتمكين الرسالة.
وفي المقابل، فإن الأفعال المتهورة جرّت الويلات على الأمة في القديم والحديث؛ فعَلاء الدين بن خوارزم شاه حينما قتل رسل جنكيز خان ارتكب فعلًا أرعن جرّ على المسلمين كارثة كبرى؛ إذ اجتاح المغول بلاد الإسلام وأسقطوا بغداد سنة 656هـ، وقُتل الملايين وسقطت الدولة العباسية. وكذلك فعل أسامة بن لادن في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حينما لم يُقدّر ميزان القوى ولا نظر في العواقب، ففتح أبواب الغزو والاحتلال والتشويه على الأمة كلها. وعلى النهج نفسه، فعل قادة حماس في السابع من أكتوبر؛ إذ لم يراعوا ميزان القوى ولا طبيعة الظرف الإقليمي والدولي، فكانت النتيجة حربًا مدمّرة على غزة، استُشهد فيها عشرات الآلاف، وانهارت البنى التحتية، وتضاعفت المأساة الإنسانية، وكان الثمن أفدح من أي مكسبٍ آني أو ضربة عسكرية محدودة.
وهكذا فإن الخلاصة أن أحدًا لا يمكن أن يفهم الإسلام حق الفهم إلا من خلال محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو الذي جسّد الرسالة في واقع الناس، وهو الذي لم يكن عبر التاريخ أحدٌ أكثر غيرةً على الإسلام منه ﷺ، ولا أشجع منه، ولا أصدق منه في الدفاع عن دين الله. لذلك فلا يحق لأحدٍ اليوم أن يزايد على فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفقهه وسياسته، لأنه هو القدوة المطلقة، وهو المعيار الذي تُقاس به الأفعال وتُوزن به المواقف، ومنهجه في الصبر والحكمة ومراعاة الظروف والنظر في المآلات هو السبيل الأوحد لرفعة الأمة وعزتها ونصرها.

