فقدت منطقة الباحة رمزاً من رموزها وعلم من أعلامها البارزين الذين توفر لهم كمال التحصيل واتساع المعرفة بعد حياة حافلة بالعطاء والعلم والعمل، خص نفسه بعلم الحديث فأخرج للقراء عملاً مميزاً ونموذجًا باهراً هو معجمه رواة الحديث الأماجد من علماء زهران وغامد.
يعتبر موسعة علمية ومرجعية كبيرة في علم رواية الحديث نعده رجلاً من رجال البحث الذين ساهموا بشكل كبير في رفد المكتبة العربية وهو الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الكناني.
فخر قرية بني عمار غربت شمسه يوم الجمعة 27 شوال 1446هـ عن عمر يناهز المئة عام وقد ذكر أنه من مواليد 1352 هـ علماً أن البعض من كبار السن يذكرون أن هذا التاريخ ليس دقيقاً، وقد تتلمذ في صغره على يد الشيخ الراحل عبد الله بن سعدي الغامدي وتابع نبوغه وحبه للعلم من أجل أن يشبع نهمه فسافر إلى موطن العلم ومهبط الوحى مكة المكرمة فلازم دروس العلم على يد الكثير من مشايخ الحرم المكي حتى تسنى له هذا الإبحار في رواية الحديث النبوي، عاصر الكثر من الأحداث وشاهد المقامات الأربعة التي جمعها الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه على إمام واحد، وإلى جانب تتلمذه في الحرم عمل موظفاً بأمانة العاصمة المقدسة ولما أبرز نبوغه ووعيه الإداري أسندت إليه إدارة فرع أمانة العاصمة بمنى والأحياء التابعة لها وقد كان له أثر آنذاك ، فقد نجح فيما أسند إليه وأتخذ قرارات مهمة تنظم الشأن مثل منع التعديات في مني كما نشر شبكة مياه للحجاج على طريق المشاة وهو أول من خصص مكاناً للذبح في منى.
ومما يدل على تأثيره في مجرى الأحداث التي عاصرها ما حدثني به والدي الشيخ إبراهيم الغبيشي، وكذلك الشيخ محمد بن عبد الله بن ناشع أحد أعلام ورموز بني شهر وهما ممن درسوا في الحرم المكي ولحق بهم الشيخ عبدالعزيز، يذكرون أحد مواقفه الجريئة عندما وقف بين يدي الملك سعود بن عبدالعزيز رحمة الله في أحد الاحتفالات التي أقيمت له إبان ترميم الحرم المكي الشريف عام 1375 هـ.
وقد ألقى كلمة بليغه نالت استحسان الملك وحاشيته والوزراء والعلماء وكبار المسؤولين، أثنى فيها على جلالته ابتدأها بقوله: يا ملك الزمان، وبين فيها حرمة وقدسية المكان، تخللها انكاره بعض السلوكيات والمنكرات التي لا تناسب قدسية المكان وشرف الزمان من بعض العاملين في توسعة الحرم المكي كشرب الدخان وغيرها، فما كان من الملك سعود إلا أن أصدر مرسوماً ملكياً يمنع فيه شرب الدخان في ساحة الحرم المكي، يقول هذا الرجل ابن ناشع لقد أدهشنا نحن والحضور بأن يأتي رجل في هذا السن من الجنوب بهذه البلاغة والفصاحة والجرأة في ذلك الزمان.
وما زلت أتذكر عندما كنت صغيراً في مطلع التسعينيات التقائه بوالدي الشيخ إبراهيم الغبيشي رحمه الله في العطلة الصيفية في منزل خالي الشيخ احمد البرتاوي العريفة وكان رجلاً مضيافاً يقيم في كل عام مناسبة كبرى يجمع فيها نخبة من الأعيان والمثقفين وغالبية أفراد قريته وقرية الغمد وكانت أشبه بندوة علمية يجاذبون فيها أطرف الحديث حول بعض القضايا المثارة وقتها كموضوع الحجاب وموضوعات اجتماعية كانت مطروحة على الساحة آنذاك.
ومن تلك النخبة التي كانت تحضر هذا المجلس الشيخ عبد الكريم بن كرفان وأخوه محمد والدكتور أحمد العماري والمؤرخ قينان بن جمعان والشيخ عبد العزيز بن حنش وكان الشيخ عبد العزيز من يترأس هذه الجلسة ويتمتع بشخصية قوية من أبرز سماتها الاقناع بالحجة وأبداء الرأي بقوة وإن احتد وتعصب أحياناً من أجل إرساء منفعة عامة أو الغيرة في إصلاح أمر يعود نفعه على الجميع كما كان حسن الصوت جهوريا وددنا وهو يؤمنا للصلاة أن يطيل من قراءته الأخاذة لقلوبنا والمؤثرة وخاصة عندما يرتل سورة” ق” ألا يركع، كما كان له حسن المداعبة والممازحة الخفيفة لكبار السن.
وبعد أن أتم دراسته قدم استقالته من العمل ليتفرغ للعلم فعاد إلى مسقط رأسه بني عمار وبارك الله في علمه حتى أصبح بيته مقصداً ومنارة للمهتمين بالعلم وإجازة علم الحديث وقد منح الكثير والكثير لمن رغب في ذلك وبعضهم علماء، كما كان يشجع ويدعم كل من يكتب عن تاريخ المنطقة وقد نلت منه شخصياً إجازة بكتابي في التاريخ “تحفة البيان عن ماضي سراة زهران” وكذلك المؤرخين قينان بن جمعان في كتاب “قبيلة بن كنانة” وأحمد علي في كتاب “العنوان في أنساب زهران”.
كان الشيخ عبد العزيز مفوهاً بليغاً أحد “العراف” البارزين في المنطقة الحاذقين في علم الأنساب والتاريخ عضواً في العديد من اللجان وتربطه علاقات مع الكثير من رجال الأعمال أمثال الشيخ حسن الأعور وأخوه مسفر تربطهم صلة رحم، كان كثير المرافقة لشيخ قبيلة بني كنانة الشيخ ذياب بن سعيد كانت لهم زيارة سنوية لأفراد القبيلة في تهامة وله مواقف رجولية كثيرة، رجل عارفه في علوم وسلوم القبائل.
ذكر لي الشيخ أحمد الدامر الكثير من تلك المواقف التي لا يسع المقام لذكرها وكان آخر تلك المواقف عندما نزل تهامة في قضية قتل حدثت في الساحة الشعبية، حيث عَلَم بعلوم الديرة في جمع غفير ألقى كلمة مؤثرة بليغة نعتقد فيها سلامة نيته استشفاعاً في ذلك القتل الذي حدث بالخطأ مما جعل أولياء الدم يتنازلون في الحال، إكراما للشيخ عبدالعزيز والحضور.
اما عن قوة شكيمة الشيخ: عندما أراد أحد المسؤولين في إمارة منطقة الباحة منعه من الجلوس في المقدمة غضب منه وقال ما هكذا يعامل المشايخ وطلبة العلم ولم يرد مع الأمير على الغداء المقام لولي العهد وعندما أفتقده الأمير محمد بن سعود وعرف السبب أمر ذلك المسؤول الذهاب إلى بيت الشيخ والاعتذار منه.
وفي موقف أخر استدعاه أمير الباحة الأمير محمد بن سعود رحمه الله بعد أن وشى به البعض وقالوا إن عنوان كتابه فيه عنصريه لأنه قدم زهران على غامد خلاف المتعارف عليه فحضر إلى مقر الإمارة بعد استدعائه ووجه له الاستفسار عن سبب ذلك وجات ردوده مسددة
فقال قدمت ذلك لثلاثة أسباب أولها: أن حرف “ز” في اللغة يأتي قبل حرف “غ” وثانيها: أن زهران في العمر أكبر من غامد، وثالثها: أن زهران عم غامد
وفي الختام نسأل الله للشيخ الرحمة والمغفرة ويجعل ما قدمه في ميزان حسناته… أن تأتي متأخراً خير من إلا تأتي وقد جئت بترجمتي المتواضعة متأخراً ولكن يشفع لي أن كان لي السبق منذ أكثر من خمسة عشر عاماً أن كتبتُ مقالاً تعريفياً بالشيخ تحت عنوان “التمسوا قضاء حوائجكم عند حِسان الوجوه” وذلك باعتبار الشيخ أحد رموز الثقافة والتأليف المعجمي في مناطقنا.
وأيضا مما دفعني للكتابة ما قام به النادي الأدبي بالباحة من بادرة وفاء بإقامة أمسيه ثقافية ناجحة عن الشيخ عبدالعزيز، فالنادي كعادته لا يترك جهداً ولا يدخر مكرمة في تكريم الرواد والرموز البارزين في ميدان الثقافة والتأليف والبحث.