منذ أن أُعيد افتتاح دور العرض السينمائي في المملكة عام 2018، شهدت الساحة الثقافية السعودية حراكًا واسعًا جعل من السينما تجربة جماهيرية جديدة تُعيد صياغة العلاقة بين الفن والمجتمع.
غير أن سؤالًا جوهريًا بدأ يطرح نفسه مع نضوج التجربة:
هل يمكن للسينما السعودية أن تتجاوز الترفيه لتصبح فضاءً للمعرفة والإلهام؟
هل يمكن أن ننتقل من “سينما الضحك والتشويق” إلى “سينما التفكير والاكتشاف”؟
أتذكر زيارتي إلى مركز سلطان بن عبدالعزيز للعلوم والتقنية في مدينة الخبر ربما قبل عشرة أعوام، حيث كان يحتوي على صالة للعرض السينمائي تقدم عروضها المثرية حول العلوم والتاريخ الطبيعي، وبطريقة مشوقة وتجربة لا يمكن أن تنسى.
والآن مع كثرة صالات العرض السينمائي أتخيّل أن تكون صالة السينما مكانًا يُثري فكر الأسرة السعودية، لا يقتصر على القصص الدرامية أو الكوميدية، بل يفتح نوافذ جديدة نحو العلوم، التاريخ، الفنون، والمجتمع.
تمامًا كما تفعل منصات عالمية مثل نتفلكس، وعربيّة مثل شاهد التي أصبحت تجمع بين الترفيه والمعرفة عبر الأفلام الوثائقية، العلمية، والتحقيقية التي تطرح أسئلة عميقة وتستفز الخيال والفكر في آن واحد.
بهذه الرؤية، تتحول السينما من وسيلة تسلية إلى وسيلة وعي جماعي، تلامس قضايا الإنسان، وتغذي فضوله المعرفي، وتُعيد ربطه بعالمه ومجتمعه.
نعيش اليوم في زمن الصورة التي تُفكّر، لا التي تُمرَّر، زمن الصحافة الاستقصائية بدل الأخبار العابرة، وزمن الأفلام التسجيلية بدل الكتب المنسية، فالفيلم الوثائقي أصبح أحد أكثر الأشكال البصرية تأثيرًا في تشكيل الرأي العام ونشر المعرفة، لما يجمعه من عمق المضمون وسحر الصورة، ومن اللافت أن السعودية بدأت تُرسّخ حضورها في هذا المجال بخطوات طموحة، ومن اﻷمثلة على ذلك:
• 🎞️ فيلم “ذا ديستينيشن” (The Destination) الذي أطلقته مبادرة كنوز التابعة لوزارة الإعلام، يوثّق التطور الذي تشهده المملكة في مجالات متعددة، بأسلوب بصري جذاب يعيد رسم صورة الواقع السعودي أمام العالم
• 🎥 مبادرة “DocHouse” التي تعمل على تمكين صنّاع الوثائقيات السعوديين من تطوير مشاريع ذات مضمون محلي ومعرفي، وإتاحة منصات عرض وإنتاج متخصصة
• 🎬 إلى جانب مهرجانات محلية بدأت تمنح الوثائقيات مساحة معتبرة مثل مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي الذي يحتفي بالقصص الحقيقية والإنسانية من مختلف مناطق المملكة.
إن السينما المعرفية ليست بديلًا عن الترفيه، بل توسعة لحدوده، هي مساحة تسمح للفن بأن يطرح الأسئلة الكبرى: عن الإنسان، والبيئة، والهوية، والتاريخ، والعلم.
فكما تُسلي الأفلام، يمكنها أن تعلّم وتُلهم، وأن تنقل المعرفة بطريقة حسّية مؤثرة يصعب أن تحققها الكلمة المكتوبة وحدها.
ولأن الجيل الجديد يتعامل مع الصورة كوسيلة أولى للفهم، فإن الأفلام الوثائقية والتعليمية يمكن أن تُسهم في بناء ثقافة معرفية بصرية تواكب التحول الرقمي في التعليم والإعلام، فالسينما ليست مجرد شاشة تُعرض عليها القصص، بل فضاء فكري وحضاري يمكنه أن يُعيد تشكيل نظرتنا إلى العالم.
وفي الوقت الذي تستثمر فيه المملكة في البنية التحتية للصناعة السينمائية، فإن الاستثمار في المحتوى المعرفي والوثائقي سيكون هو ما يمنح السينما السعودية مكانتها الحقيقية في المشهد العالمي، وربما نصل قريبًا إلى اليوم الذي تصبح فيه زيارة السينما تجربة ثقافية بقدر ما هي ترفيهية،
وحينها سنكون قد انتقلنا حقًا من مشاهدة الصورة إلى فهم العالم من خلالها.
0






