يُعدّ جامع قرطبة واحداً من أعظم المعالم الإسلامية في التاريخ، ورمزاً حضارياً فريداً امتد تأثيره لقرون طويلة في الأندلس. فقد كان مكاناً للعبادة والصلاة، ومركزاً إدارياً وسياسياً، ومقراً للسلطة والحكم، وداراً للعدل والقضاء. وفي أروقته كانت تتم البيعة للخلفاء، ومن فوق منبره تُعلَن المراسيم والمناسبات، ويُحتفل بالخروج لحملات الجهاد، وشهدت ساحاته منافسات الشعراء وندوات العلماء.
عدّه المؤرخون تحفة معمارية نادرة، وصرحاً علمياً بارزاً ظل لقرون مركزاً للمعرفة، تخرّج فيه كبار علماء المسلمين في مختلف العلوم. وكان أشبه بجامعة عصرية تقدّم العلوم الدينية والطبيعية، فسُمّي دار العلوم ومجمع العلماء، ووفد إليه الطلاب من أنحاء العالم حتى تجاوز عددهم أربعة آلاف طالب قُدّمت لهم الإقامة والطعام والرواتب. ومن أشهر رواده: عالم الطيران عباس بن فرناس، والجغرافي الإدريسي، والفقيه ابن حزم، والجراح الزهراوي، بل حتى البابا سلفستر الثاني تلقى تعليمه هناك، فكان الجامع النموذج الذي بُنيت على أساسه جامعات أوروبا الكبرى.
وفد أحسن عبد الرحمن الداخل (صقر قريش) روعة التأسيس والبناء حين اعتمد في بناء الجامع على أعمدة رومانية وقوطية قديمة، مما منح الطراز المعماري تميزاً فريداً. بدأ البناء سنة 169هـ / 785م على أرض صخرية ثابتة، وأشرف عليه المهندس حنش الصنعاني الذي ابتكر الأقواس المزدوجة الشهيرة. وزُرع صحن الجامع بأشجار البرتقال التي رُويت عبر قناة من جبل العروس، حتى صار ذلك تقليداً أندلسياً.
ومع ازدهار قرطبة توسّع الجامع، وكانت أجملها توسعة الحكم المستنصر بالله التي أضيف فيها المحراب الحالي المزخرف بالفسيفساء البيزنطية والقبه المذهلة، أما أكبر توسعة مساحةً فكانت توسعة المنصور بن أبي عامر التي ضاعفت حجم الجامع.
وتُعد الأقواس الحمراء والبيضاء المزدوجة، والأعمدة الرخامية الكثيرة، وتناسق الضوء والصوت، وساحات البرتقال، من أبرز ملامح روعة الجامع. كما يقع بمحاذاة حي القصبة التاريخي وباب الغفران، ويرتبط بقصر الخلافة عبر قنطرة الساباط.
بعد سقوط قرطبة سنة 1326 م حوّل الإسبان الجامع إلى كاتدرائية وأضافوا إليه طرازاً قوطياً وباروكياً. وفي 2006 أعلنت أسقفية قرطبة ملكيتها للمبنى، ثم أُدرج سنة 2007 ضمن كنوز إسبانيا. إلا أن تقريراً لليونسكو عام 2018 أكد أن المسجد لم يكن يوماً ملكاً للكنيسة، وفي 2023 اعترفت الحكومة الإسبانية بأحقيته التاريخية.
يبقى جامع قرطبة معلماً فريداً يجمع بين العراقة الإسلامية والتاريخ الأوروبي، وشاهداً على حضارة عظيمة لا يزال أثرها حاضراً حتى اليوم.
• عضو مجلس الشورى وأكاديمي
