هل يمكن لسلسلة جبال أن تصنع تاريخ أمة؟ أو لنهر عظيم أن يرسم حدود صراع؟ وهل يمكن أن يكون كون دولة ما “حبيسة” بين اليابسة، بلا منفذ بحري، عاملًا يحدد مسارها الاقتصادي والأمني؟ هذه الأسئلة المصيرية يحاول الإجابة عنها كتاب “سجناء الجغرافيا” للصحفي البريطاني المخضرم تيم مارشال، في ترجمته العربية الصادرة حديثًا عن مؤسسة “صفحة سبعة”. الكتاب يقدم رؤية ثاقبة تجعل من الخريطة مفتاحًا لفهم أعمق للسياسة الدولية.
قبل الغوص في فصول الكتاب، يجدر تعريف مفهوم مركزي يظهر بقوة في تحليله: الدولة الحبيسة. هي الدولة المحاطة باليابسة من جميع جهاتها، دون منفذ مباشر على البحر أو المحيط. هذه السمة الجغرافية تفرض إكراهات هائلة، تجعل الدولة رهينة لجيرانها للوصول إلى الموانئ العالمية، مما يؤثر على تكاليف تجارتها وأمنها الإستراتيجي وقدرتها على الاستقلال في السياسة الخارجية. يوجد في العالم اليوم أكثر من 40 دولة حبيسة، مثل كازاخستان وروسيا البيضاء (بيلاروس) وباراغواي وبوليفيا ونيبال، وتتفاوت قدراتها في التعامل مع هذا التحدي الجغرافي.
يأتي الكتاب من صلب خبرة مارشال الواسعة كمراسل ومحرر للشؤون الدولية في قنوات مثل “سكاي نيوز” و”بي بي سي”. هذا العمق الإعلامي والسياسي منح الكتاب صبغة تحليلية عملية، تربط بين ثوابت الجغرافيا ومتغيرات السياسة، مما يجعله إضافة نوعية للمكتبة العربية في حقل الجيوسياسة.
ينظم مارشال كتابه في عشرة فصول، كل منها يحمل اسم منطقة أو دولة: روسيا، الصين، الولايات المتحدة، أوروبا الغربية، أفريقيا، الشرق الأوسط، الهند وباكستان، كوريا واليابان، أميركا اللاتينية، والقطب الشمالي. الهدف هو تفكيك “قيد الجغرافيا” الذي تتعامل معه كل كتلة، وكيف تحاول تجاوزه أو التأقلم معه.
في تحليله لروسيا، يشرح مارشال كيف أن السهل الأوروبي الواسع الذي يشكل معظم الجزء الغربي منها، جعلها عبر التاريخ “ممرًا للغزاة”، من المغول إلى نابليون ثم هتلر. هذه التهديدات المتكررة خلقت عقلية أمنية قائمة على إنشاء “دول عازلة” وتوسيع النفوذ، وهو ما يفسر السياسة الخارجية الروسية حتى اليوم. ويؤكد أن الهوية الأرثوذكسية والسلطوية السياسية تعملان مع العامل الجغرافي كأداة توحيد داخلي وذراع لمقاومة التأثيرات الخارجية.
الحرب الروسية الأوكرانية: اختبار حي لنظرية الجغرافيا السياسية
تقدم الحرب الروسية الأوكرانية المستمرة منذ 2022 مثالًا معاصرًا حيًا على صحة تحليل مارشال. فمنذ اللحظات الأولى للغزو، كان واضحًا أن هذه الحرب “إعادة فتح حسابات الجغرافيا السياسية العالمية من قلب أوراسيا”. بالنسبة لروسيا، تمثل أوكرانيا مجالًا حيويًا تاريخيًا وجغرافيًا؛ فقد اعتبرت كييف دائمًا “أم المدن الروسية”، كما أن السهول المفتوحة بين البلدين تشكل طريقًا غزواً تقليديًا نحو قلب روسيا. لذلك، يسعى الكرملين إلى منع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو، وإنشاء منطقة عازلة تحمي عمقه الإستراتيجي. أما أوكرانيا، فموقعها بين روسيا من الشرق وأوروبا من الغرب جعلها ساحة صراع دائمة بين القوى الكبرى. كما أن سعيها للحصول على منفذ بحري عبر البحر الأسود (خاصة بعد ضم روسيا للقرم) يزيد من تعقيد المعادلة الجيوسياسية. هذه الحرب تؤكد أن الجغرافيا لا تزال محركًا رئيسيًا للصراعات في القرن الحادي والعشرين.
ويتجلى تحليل الدول الحبيسة بوضوح في فصول أوروبا وأفريقيا وآسيا.
ففي أوروبا، دول مثل سويسرا والنمسا وجدت في حبسها الجغرافي حافزًا للتحييد والدقة في سياساتها، بينما حولته إلى مركز مالي ودبلوماسي عالمي.
وفي أفريقيا، تواجه دول مثل مالي والنيجر وتشاد تحديات مضاعفة بسبب الحبس الداخلي وضعف البنية التحتية، مما يؤجج أحيانًا عدم الاستقرار.
وفي آسيا، تُظهر منغوليا، المحصورة بين روسيا والصين، كيف يمكن لدولة حبيسة أن تمارس دبلوماسية مرنة للغاية للحفاظ على استقلالها.
ولا يغفل الكتاب عن المنطقة العربية والشرق الأوسط. يسلط الضوء على دور الصحراء في صياغة النسيج الاجتماعي القبلي وثقافة التنقل والحدود المرنة. كما يحلل كيف أن السيطرة على مصادر المياه (دجلة، الفرات، النيل، الأردن) كانت ولا تزال محور نزاعات. ويشير إلى أن اكتشاف النفط أعاد رسم التحالفات وخلق “جغرافيا جديدة” للقوة. في هذا السياق، تُعد الأردن مثالًا على دولة حبيسة بشكل شبه كامل (باستثناء منفذها الصغير على خليج العقبة) اضطرت لبناء سياستها على التوازن الدقيق بين جيرانها الأقوياء.
وبالرغم من قوة الطرح، يقدم مارشال تحليلاً قد يتهمه البعض بـ “الحتمية الجغرافية”، حيث تبدو خيارات الدول مسيرة بفعل الجبال والأنهار. وهنا تبرز أهمية الإرادة البشرية والابتكار. فالتقدم التكنولوجي في النقل (كالقطارات فائقة السرعة) والطاقة (كخطوط الأنابيب) والاتصالات، أعاد تعريف “المسافة” و”الحاجز”. كما أن الدبلوماسية الذكية والاتفاقيات الدولية يمكن أن تخفف من وطأة الحبس الجغرافي، كما نرى في اتفاقيات المرور العابر لبعض الدول الحبيسة. العوامل الداخلية من تماسك اجتماعي واستقرار سياسي تبقى حاسمة وقد تمكن دولة من تجاوز قيود خريطتها.
وفي الختام يجدر القول بأن من يرغب في فهم اللعبة الكبري عليه بقراءة كتاب “سجناء الجغرافيا” حيث يصدر في وقت تشهد فيه المنطقة والعالم تحولات جيوسياسية عميقة. فهو لا يقدم إجابات سهلة، بل يمنح القارئ عدسة تحليلية جديدة تُظهر كيف أن الموقع والمساحة والتضاريس والموارد هي خلفية كل الأخبار السياسية والعسكرية والاقتصادية. إنه دعوة لإعادة اكتشاف الجغرافيا، ليس كعلم للماضي، بل كمفسر رئيسي للحاضر واستشراف للمستقبل. وهو تذكرة قوية بأن الأمم، رغم كل تقدمها، لا تزال إلى حد كبير، سجناء جغرافيتها، خاصة تلك المحبوسة داخل اليابسة، والتي تظل تحدياتها وأدوات تعاملها معها درسًا جيوسياسيًا بليغًا.





