المقالات

جامعة أم القرى وهندسة المنظومة الفكرية: من الوعي إلى التنمية المستدامة

إن نهضة أي أمة لا تُقاس بالتطور العمراني، ولا بالموارد الاقتصادية فقط، بل بقدرة المجتمع فيها على أن يصوغ لنفسه منظومة فكرية متماسكة تحفظ اتزانه وتوجّه مساره، فالعقل الجمعي إذا تُرك بلا مشروع حضاري يصبح عُرضة للتفكك والانجراف، حتى وإن امتلك أدوات الاقتصاد والتقنية، ومن هنا يتأكد أن التعليم ليس تكديسًا للمعرفة، بل ممارسة تأسيسية لصناعة العقل، وترسيخ القيم، وضمان توازن الهوية مع مقتضيات الانفتاح.

وقد أدركت رؤية المملكة 2030 بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله – هذه الحقيقة حين وضعت الإنسان في قلب التنمية، عقلًا وقيمة ومعرفة، فالرؤية أوضحت أن النهضة ليست أرقامًا اقتصادية فحسب، بل بناء عقل ناقد، وقيم راسخة، وهوية قادرة على الصمود أمام تحديات العولمة، وانطلاقًا من هذا التوجه، تبنّت وزارة التعليم ومجلس شؤون الجامعات سياسات تجعل من الجامعات ركيزة للأمن الوطني عبر تعزيز الوعي الفكري، بحيث تصبح الجامعات مصانع للعقول الواعية لا مجرد مؤسسات لتخريج الكفاءات وإصدار الشهادات.

ويبرز هنا سؤال محوري: ما الذي نقصده بالوعي الفكري؟، والجواب يؤكد أن الوعي ليس معرفة عابرة، بل بناء متكامل يقوم على أعمدة أربعة: عمق معرفي يربط الطالب بهويته دون أن يعزله عن العالم، وحس نقدي يحميه من الانقياد وراء المقولات المعلّبة ويكشف الزيف في ثوب الحقيقة، وقدرة تحليلية تمنحه رؤية للسياقات وتحول ردود الأفعال العابرة إلى رؤى راسخة، وبوصلة قيمية تجعل المعرفة مشبعة بالكرامة والانتماء، فتحوّل العقل من أداة باردة إلى قوة إنسانية تحمل همّ الوطن والإنسان معًا.

لكن هذا الوعي، مهما كان متينًا، يظل هشًّا ما لم يحمه سياج يحافظ على اتزانه، وهنا يأتي مفهوم الأمن الفكري الذي لا يُقصد به الحَجْرُ على العقول، بل ضمان أن تكون الحرية مسؤولة لا فوضى، وأن يصبح التنوع إثراءً لا انقسامًا، وأن يكون الانفتاح تفاعلًا لا ذوبانًا، وعندما يلتقي وعي ناقد بأمن حامٍ، تتشكل المناعة الفكرية، وهي الدرع التي تحمي المجتمع من الاختراق، وتضمن للتنمية أن تسير على أرض راسخة.

وقد انعكست هذه الرؤية الوطنية بوضوح في مؤتمر مسؤولية الجامعات في تعزيز القيم والوعي الفكري، الذي نظمته جامعة أم القرى في مكة المكرمة بين ( 25-27 أغسطس )، حيث كان المؤتمر حدثًا وطنيًا مهمًا تجاوز حدود الجامعة، ليؤكد أن التعليم الجامعي لم يعد مجرد فضاء أكاديمي، بل شريك أصيل في صناعة الفكر وصون القيم، ومساهم رئيس في حماية المجتمع من التحديات الفكرية والأخلاقية.

وانعقاد المؤتمر في جامعة أم القرى تحديدًا منح التجربة بُعدًا إضافيًا؛ فهذه الجامعة العريقة، بما تحمله من تاريخ علمي ومكانة روحية في مكة المكرمة، قدّمت نفسها كمرجعية حضارية قادرة على الجمع بين الأصالة والمعاصرة، ومن هنا اكتسب المؤتمر صدقية مضاعفة، وأرسل رسالة واضحة بأن الجامعات السعودية تمتلك المقومات التي تجعلها جسرًا بين الهوية والانفتاح، وبين المعرفة والقيم.

أما القيمة الجوهرية للمؤتمر فقد تجسدت في محاوره العلمية التي تناولت بعمق مسؤولية الجامعات في تعزيز القيم الإنسانية كالعدالة والتسامح والتكافل والاحترام، وربط هذه القيم بمسؤولية الجامعة تجاه المجتمع، كما ناقش المؤتمر التكامل بين الجامعات السعودية في مواجهة الفكر المتطرف وترسيخ الاعتدال والوسطية، إضافة إلى دوره في التصدي للتحديات الفكرية والرقمية والأخلاقية التي تواجه منظومة القيم، ولم يقف عند الحاضر فحسب، بل استشرف مستقبل مسؤولية الجامعات في ضوء رؤية 2030 عبر رؤى استراتيجية وتوصيات فاعلة.

ولأن الخطاب لا يكتمل من دون شواهد عملية، فقد عرضت جامعة أم القرى خلال المؤتمر أدلة ملموسة على أنها تسير فعلًا في هذا الاتجاه، فجاءت منصتا مستشارك الإلكتروني، ومنصة وعي كأمثلة حية على أن الجامعة تعيش هذه الفلسفة وتسعى إلى تطويرها باستمرار، وتحوّلها من إطار نظري إلى ممارسة فعلية تدمج التعليم بالحياة اليومية، وتربط الفكر بالقيم في صورة مشاريع واقعية.

وتتجاوز قيمة المؤتمر حدود جامعة أم القرى، لتشير إلى مسار وطني أشمل، فهو يفتح الباب أمام الجامعات السعودية جميعها لإعادة تعريف أدوارها، وللانتقال من مؤسسات تعليمية تقليدية إلى منصات فكرية تبني المناعة الفكرية، وترسخ القيم، وتخدم التنمية المستدامة، وهكذا يصبح المؤتمر نموذجًا يُحتذى، لأنه جمع بين الرؤية والسياسة والممارسة في مشروع حضاري واحد.

إن هندسة المنظومة الفكرية إذن ليست ترفًا أكاديميًا ولا شعارًا تجميليًا، بل استراتيجية وطنية متكاملة تعكس نضج السياسات السعودية، وتجعل من الجامعات مصانع للعقل الواعي، وحصونًا للقيم، وركائز للأمن والتنمية، وهنا تبرز الحقيقة الكبرى القائلة: أن الثروة الأولى للمملكة ليست مواردها المادية وحدها، بل عقلها المستنير المحصّن بالقيم، القادر على صناعة مستقبل أكثر رسوخًا وأمانًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى