المقالات

هندسةُ التحوّل: من شرعيةِ القيم إلى قيمِ الإنجاز

قراءةٌ تحليلية في الخطاب الملكي أمام مجلس الشورى

ةلا يقدّم الخطابُ الذي ألقاه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان ولي العهد نيابة عن خادم الحرمين الشريفين -حفظهما الله- أمام مجلس الشورى سردًا بروتوكوليًّا بقدر ما يطرح معادلةً ناظمة للمرحلة: شرعيةٌ قيميةٌ مؤسَّسة على الشريعة والعدل والشورى، وقيمةٌ إنجازيةٌ توثّقها أرقام الاقتصاد ومنطق الحوكمة، وبهذا المزج بين المرجعية والمعيار يتحوّل الخطاب من خبرٍ سياسي إلى إطارٍ تفسيري يشرح كيف تُدار التحوّلات الكبرى ويُضبط إيقاعها.

أولاً: اقتصادُ الممكن وتحوّل بنية النمو:

بحسب ما ورد في الخطاب، ارتفع إسهام القطاع غير النفطي إلى ٥٦٪، وتجاوز الناتج المحلي ٤,٥ تريليون ريال، واختارت ٦٦٠ شركة عالمية المملكةَ مقرًّا إقليميًا، إلى جانب اتفاقاتٍ متقدّمة في الذكاء الاصطناعي وبنيةٍ رقمية تتسارع، وهذه ليست أرقامًا للاستهلاك؛ إنها دليل صلاحية على انتقالٍ من تنويع الإيرادات إلى تعميق القيمة المضافة في الصناعة والخدمات والتقنية، وبناء اقتصادٍ يعيد صياغة مصادر قوّته ويؤسّس لمركز ثقلٍ إقليمي في اقتصاد المعرفة.

ثانيًا: السيادة الصناعية والأمن الاقتصادي:

يشير الخطاب إلى بلوغ توطين الصناعات العسكرية أكثر من ١٩٪، والدلالة هنا أبعد من رقمٍ عابرٍ؛ فنحن أمام منظومة أمنٍ اقتصادي تبني سلاسل إمداد محلية، وتنقل المعرفة، وتفتح مساراتٍ نوعيّة للبحث والتطوير ووظائف عالية المهارة، وبهذه الرؤية تصبح الصناعة الدفاعية جزءًا من شبكة الأمان الوطني كما هي جزءٌ من محرّك النمو.

ثالثًا: هُندسة المالية العامة:

يعتمد الخطاب مبدأ ماليةٍ عامةٍ صلبة لا ترتهن لمصدرٍ واحد ولا للأهواء، ويتجلّى ذلك في اعترافٍ صريح باختلالات سوق العقار وارتفاعٍ غير مقبول للأسعار، وهذا الاعتراف لا يقف عند التشخيص، بل يتيح إطارًا تنظيميًا وتنفيذيًا لإعادة التوازن من خلال خفض الكلفة، تحفيز التطوير العقاري، وتوسيع الخيارات أمام المواطنين والمستثمرين، وبذلك يتكامل مع مرونة البرامج من خلال مراجعة، تعديل، بل وإلغاء متى اقتضت المصلحة العامة، فتتحوّل الإدارة من قائمة مشاريع إلى إدارة محفظة تحوّل تُوجّه الإنفاق إلى الأولويات وتُقاس آثاره الاقتصادية والاجتماعية دوريًا.

رابعًا: سياسةٌ خارجية بقيمٍ ضابطة:

يثبت الخطاب المبدأ الأخلاقي في السياسة السعودية: من حيث دعم الحقوق العربية والإسلامية وتفعيل حلّ الدولتين ضمن مبادرة السلام العربية 2002م، مع مقاربةٍ مسؤولة لملفات الإقليم العربي (قطر، سوريا، لبنان، اليمن، السودان)، وبهذا المنطق، تتجسّد المقاربة العملية في ثلاث ركائز متكاملة: مواقف قانونية وسياسية رادعة تجاه العدوان الإسرائيلي، وآليات وساطة فعّالة، وشراكات مؤسسية؛ بما يحوّل الثقل الاقتصادي إلى نفوذ مُطْمَئِن يعزّز الاستقرار الإقليمي ويُرسّخ قواعد الردع المسؤول، مع دعم غير محدود لدولة قطر الشقيقة فيما تقرّره لصون أمنها وسيادتها.

خامسًا: الشورى من المراجعة إلى الهندسة التشريعية:

يحدد الخطاب بأن دور مجلس الشورى اليوم لا يقتصر على مراجعة الأنظمة فقط، بل يتجه إلى هندسة تشريعية تستبق التحولات وتحوّل التشريع من نصوص جامدة إلى أدوات تسريع، فمواكبة اقتصاد البيانات والذكاء الاصطناعي تعني بناء أطر قانونية مرنة وفاعلة، تجعل الأسواق أكثر شفافية والإجراءات أكثر بساطة، وتُرسّخ الثقة لدى المواطن والمستثمر على حد سواء، وهنا تتجلّى بصمته الواضحة في وضع المملكة على طريق الدول المتقدمة تشريعيًا.

سادسًا: مرونةُ البرامج وثقافةُ الأداء:

يتكثّف في النص معجمٌ إداري لافت: ( نُقيّم، نُراجع، نُعدّل، لن نتردّد )، فهي ليست زينة بلاغية؛ بل إعلان ثقافة التكيّف المصحوب بالمساءلة بوصفها شرطًا لازماً لاستدامة التحوّل، والمعنى الإنساني لهذا كلّه أن الأرقام تُترجَم إلى خبرة عيشٍ أفضل: سكنٌ معقول الكلفة، وظائف وتحسين الدخل، خدماتٌ تعمل بكفاءة، وفرصُ تعلّمٍ مستمر.

ويلخّص الخطاب خريطة طريقٍ متوازنة: قيمٌ تقوي الاتجاه وتثبته، وأرقامٌ تدعم البرهان وتوطده، وحوكمةٌ تضمن الاستدامة وتنميها، وعلى هذا النسق تتقدّم الأولويات كتعميق التنويع الإنتاجي، معالجة قصور بعض القطاعات- وفي مقدّمتها العقار- وتحويل مكاسب التقنية والذكاء الاصطناعي إلى إنتاجيةٍ أعلى وفرصٍ أوسع، ومعيار النجاح هو قدرة المنظومة على موازنة قوّة الاقتصاد مع تزايد الفرص وتوفرها وجودة الحياة، وهكذا تتعاضد شرعيةُ القيم ومشروعيةُ الإنجاز لتصنعا مستقبلًا سعوديًا أكثر رسوخًا وازدهارًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى