لم يعد الفضاء الرقمي اليوم مجرد وسيلة للتواصل أو الترفيه، بل تحول إلى ساحة عامة جديدة تُصاغ فيها الأفكار وتُبنى فيها المواقف وتُدار عبرها النقاشات التي قد تحدد مصير الأفراد والمجتمعات.
في هذا السياق، أصدرت الهيئة العامة لتنظيم الإعلام في المملكة العربية السعودية قراراً يتضمن قائمة من المحظورات والضوابط التي تنظّم المحتوى الإعلامي والظهور الرقمي.
هذه الخطوة تحمل أبعاداً عميقة تتجاوز الطابع الإداري، لتشكل رؤية متكاملة عن كيفية التوفيق بين حرية التعبير وحماية القيم الاجتماعية.
ثلاثية التنظيم: الأخلاق، المعلومة، الهوية
المحظورات الواردة في القرار يمكن قراءتها من خلال ثلاثية رئيسية:
أولا: الأخلاق والكرامة الإنسانية:
يتجلى ذلك في منع التنمر والاستهزاء، وحظر كشف خصوصيات الأسر أو استغلال الأطفال والعمالة. هذه البنود تعكس وعياً بأهمية حماية الفئات الهشة وصون كرامة الأفراد في فضاء رقمي كثيراً ما يشهد اعتداءات لفظية ونفسية.
ثانيا: المعلومة والمصداقية:
ينص القرار على منع نشر المعلومات المضللة أو غير الصحيحة. هذه الاستجابة ليست محلية فحسب، بل تتقاطع مع جهود عالمية لمواجهة ما يُعرف بوباء الأخبار الزائفة (Fake News) الذي ازداد خطورة خلال الأزمات والأحداث الكبرى.
ثالثا: الهوية الوطنية والاجتماعية:
تضم القائمة حظراً لإثارة القبلية والطائفية والعنصرية، وكذلك أي محتوى يسيء للقيم الوطنية. هذا البند يؤكد أن الحفاظ على تماسك الهوية الجماعية يشكل أولوية قصوى في مشروع الحوكمة الرقمية السعودي.
رابعا: الجسد في الفضاء الإعلامي:
من اللافت أن القرار لم يتوقف عند المضامين النصية أو المرئية، بل امتد ليشمل معايير للباس والمظهر في الإعلام الرقمي، حيث حظر كشف الجسد من الكتفين حتى الساقين، والملابس الضيقة أو الشفافة.
هذا التفصيل يعكس رؤية تعتبر أن الجسد في الإعلام ليس محايداً، بل يحمل رموزاً اجتماعية وثقافية، فالمظهر العلني لا يُفهم فقط كاختيار فردي، بل كخطاب مرئي يُترجم قيم المجتمع وحدود المقبول فيه وهنا تتضح خصوصية السياق السعودي، الذي يسعى إلى نقل معاييره الثقافية إلى الفضاء الرقمي العابر للحدود.
لفهم خصوصية القرار السعودي، يجدر مقارنته مع سياسات تنظيم الإعلام في مناطق أخرى من العالم:
ففي الاتحاد الأوروبي يركز على حماية البيانات ومكافحة التضليل الإعلامي وخطاب الكراهية، لكنه لا يتدخل في المظهر الشخصي أو المعايير الأخلاقية الخاصة باللباس.
وفي الولايات المتحدة تحمي حرية التعبير بشكل شبه مطلق بموجب التعديل الأول للدستور، ولا تُقيد إلا في حالات محدودة مثل خطاب الكراهية أو المحتوى الإباحي الصريح.
أما في العالم العربي تشترك معظم الدول مع السعودية في إيلاء أهمية كبرى للهوية والقيم الدينية والاجتماعية، لكن السعودية تتقدم بخطوات أكثر وضوحاً في صياغة لوائح دقيقة تشمل السلوك الرقمي والظهور الإعلامي معاً.
هذا التباين يكشف أن السعودية تتبنى النموذج المحافظ للتنظيم الإعلامي، الذي يعطي الأولوية لحماية المجتمع وقيمه على حساب الحرية الفردية المطلقة التي قد تخل ببنية المجتمع وترابطه.
من زاوية علمية، يحمل القرار مجموعة من الإيجابيات الواضحة، كالحد من ظاهرة التنمر الإلكتروني، وحماية خصوصية الأفراد والأسر، ومكافحة الشائعات والأخبار الزائفة، وتعزيز الهوية الوطنية واللحمة الاجتماعية.
بطبيعة الحال لا يخلو الأمر من تحديات، بصعوبة التطبيق في فضاء رقمي عابر للحدود، حيث المحتوى لا يعرف قيوداً جغرافية، في زمن تلاشت فيه الحدود الجغرافية، لكن المشرِّع هنا لابد أنه وضع ذلك بعين الاعتبار.
القرار لا ينفصل عن التحولات الكبرى التي يشهدها المجتمع السعودي في إطار رؤية 2030، حيث يسعى إلى تعزيز دور الإعلام الرقمي كأداة تنموية، مع ضبطه وفق منظومة قيمية وطنية.
إنه نموذج للحكم الرشيد في الإعلام الرقمي يقوم على فكرة أن الفضاء الرقمي لا يمكن أن يكون متروكاً بلا ضوابط.
قرار الهيئة العامة لتنظيم الإعلام يمثل خطوة جديدة في رسم ملامح حوكمة رقمية سعودية توازن بين الحرية والضبط، وبين العالمية والمحلية، وإذا كان الغرب ينشغل بمحاربة التضليل وخطاب الكراهية، فإن السعودية تضيف إلى ذلك بُعداً آخر يتمثل في حماية القيم الاجتماعية والدينية التي تشكل جوهر هويتها.
يبقى التحدي الأكبر هو تحقيق التوازن بحيث يظل الإعلام الرقمي فضاءً مفتوحاً للحوار والإبداع، وفي الوقت ذاته محكوماً بسقف القيم التي تصون المجتمع وتحمي استقراره، وهي معادلة صعبة، لكنها تمثل جوهر المرحلة المقبلة من التنظيم الإعلامي في المملكة.

