في مسيرة الأمم، هناك أوطان تمنح أبناءها أرضًا يعيشون فوقها، وأوطان تمنحهم موارد يستهلكونها، لكن القليل جدًا من الأوطان يذهب أبعد من ذلك، ليصنع في مواطنيه شخصية جديدة، هوية فاعلة، وكاريزما تتجاوز حدود الجغرافيا. والسعودية اليوم، عبر مشروعها النهضوي الكبير المتمثل في رؤية 2030، تجسّد هذا النموذج النادر: وطن لا يكتفي بالتنمية المادية، بل يعيد تشكيل الإنسان ذاته، ويمنحه حضورًا مختلفًا في العالم.
لقد دخلت المملكة في العقد الأخير إلى مراكز متقدمة عالميًا في الاقتصاد والسياحة والاستثمار والرياضة والثقافة، لكن الأثر الأعمق من ذلك كان في صورة المواطن السعودي نفسه: شابًا أو شابة، قياديًا أو مبدعًا، صار ينظر إلى العالم من موقع الصدارة لا من موقع التبعية، وهذه النقلة لم تكن مصادفة، بل هي ثمرة مشروع وطني غيّر البيئة، وصاغ مناخًا جديدًا للثقة، وزرع في الإنسان شعورًا أن له مكانًا أول بين الأمم.
فالكاريزما الوطنية ليست مفهومًا عابرًا؛ إنها مزيج من عناصر متكاملة: الثقة بالذات، القدرة على المنافسة، الجرأة على الحضور، والتصالح مع الهوية، وقد نُسجت كل هذه العناصر عبر برامج نوعية: الاستثمار في التعليم والمعرفة، تمكين الشباب والمرأة، فتح أبواب الثقافة والرياضة، وبناء منصات تقنية متقدمة، وهنا أصبح المواطن يرى نفسه في مرآة العالم، لا كمتلقٍ بل كمشارك في صنع الاتجاهات.
ومن منظور علم الاجتماع، يمكن القول إن السعودية نجحت في تحويل “المواطنة” من مجرد علاقة قانونية بين الفرد والدولة إلى ثقافة حضور يعيشها الفرد في تفاصيل يومه، فالمواطن اليوم لا يتحدث فقط عن مشروعات وطنه، بل يتحدث بلسان الوطن، وكأن حضوره الشخصي صار امتدادًا لنهضة البلاد، وهذه نقلة جوهرية في بناء الهوية الوطنية: حيث الانتقال من حب الوطن إلى تمثيله، ومن الانتماء إليه إلى تجسيده أمام العالم.
إن التجربة السعودية تُظهر أن النهضة ليست أرقامًا، بل هي عملية إعادة تشكيل الإنسان، فحين تتقدّم المملكة في مؤشر التنافسية أو السياحة أو الذكاء الاصطناعي، فإن المواطن نفسه يكتسب رمزية جديدة: يصبح مرادفًا للابتكار، للاستضافة، للقيادة، ومن هنا تتكوّن الكاريزما الجمعية: حضور جماعي يصنعه كل فرد، ويتحول إلى صورة متماسكة تُرى من الخارج كصوت سعودي واثق ومؤثر.
هذا التحول يفتح أفقًا فلسفيًا أيضًا: فالوطن لم يعد مجرد “فضاء نعيش فيه”، بل صار حالة معرفية وشخصية في آن واحد، فالسعودية اليوم ليست فقط على الخريطة، بل داخل الوعي العالمي، والمواطن السعودي هو مرآتها وصورتها المتحركة، لقد صنع الوطن في أبنائه طاقة جديدة، وجعلهم يختبرون أنفسهم كفاعلين دوليين، لا كمواطنين محليين فحسب.
وفي اليوم الوطني، يحق لنا أن نتأمل هذا المعنى العميق: أن الاحتفاء ليس مجرد تذكّر للتاريخ أو إنجازات الحاضر، بل وعي بأننا – كمواطنين – أصبحنا نحمل على عاتقنا مسؤولية تمثيل وطن بحجم مشروع كوني، وإن السعودية لم تعد تعلّم أبناءها كيف يعيشون فيها فقط، بل كيف يعيشون بها ومعها على مسرح العالم.
إنها اللحظة التي يصبح فيها الوطن مصنعًا للكاريزما الإنسانية، حيث تُولد ثقة جديدة، تُصاغ هوية متجددة، ويُكتب فصل آخر من الحكاية الوطنية، فصلٌ يتجاوز الحدود ليضع المملكة ومواطنيها في الصفوف الأولى، بثقة ووعي وقدرة على الإسهام في صناعة المستقبل.





