المقالات

إبراهيم بن بادي ونموذج الوفاء: كيف يتحول التكريم إلى استراتيجية مجتمعية؟

كتب الدكتور عبدالله غريب مقالة موجزة بمناسبة عودة البطل إبراهيم بن بادي الزهراني واستقبال الناس له بعد سنوات من العلاج، وقد بدت كلماته المقتضبة كافية لتفتح أفقًا أوسع للتساؤل حول معنى التكريم، إذ لامست جوهر المسألة: كيف يمكن لمجتمع أن يكرّم أبطاله بما يليق بتضحياتهم؟ فلم تكن الدعوة مجرد تعليق على حدث اجتماعي، بل مرآة أعادت ترتيب زاوية النظر؛ من لحظة الفرح بالعودة والاحتفاء الشعبي، إلى سؤال أعمق عن موقع البطولة في ذاكرتنا الوطنية، وعن الكيفية التي تتحول بها التضحية الفردية إلى قيمة جمعية تُحفظ وتُورّث.

ويكتسب هذا السؤال وزنه حين نضعه في سياق ما قامت به هذه البلاد المباركة تجاه أبنائها الأوفياء، فمنذ لحظة إصابة إبراهيم في ساحة الشرف، تكفلت القيادة الرشيدة برعايته وعلاجه على أرقى المستويات، فقضى أكثر من سبع سنوات في ألمانيا يتلقى العلاج والتأهيل بمتابعة كريمة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان ـ حفظهما الله ـ اللذين لم يقصّرا يومًا في رعاية المرابطين وأسرهم، وأولوه عناية خاصة تعكس مكانتهم في قلب القيادة، ولعل عودته معزّزًا مكرمًا تحمل رسالة واضحة بأن الدولة أدّت دورها على أكمل وجه، ولم تنس أبناءها الذين بذلوا أرواحهم وأجسادهم في سبيل أمنها واستقرارها.

لكن الصورة تحتاج إلى أن يصبح التكريم ثقافة مجتمعية شاملة، فالتكريم ليس فعلاً رمزيًا ولا لحظة عاطفية عابرة، بل ممارسة متعددة الأبعاد تتوزع أدوارها بين الأفراد والمؤسسات، وحينها يتحول من مناسبة وقتية إلى تقليد راسخ، ومن تعبير وجداني إلى استراتيجية مجتمعية تحفظ قيمة التضحية وتمنحها امتدادًا عمليًا.

فعلى مستوى الأفراد والمجتمع المحلي، يمكن أن تتحول الزيارات والتهاني إلى مبادرات دائمة تُشعر البطل وأسرته بأنهم جزء حيّ من نسيج المجتمع لا ينقطع الاهتمام بهم، وعلى مستوى رجال الأعمال، يصبح التكريم فرصة لترسيخ المسؤولية الاجتماعية عبر مبادرات نوعية: بيت يليق بالبطل، أو سيارة تسهّل حياته، أو مشروع يضمن له دخلاً كريمًا، وهي أفعال لا تمثل هدايا شخصية بقدر ما تمثل عقود وفاء تترجم قيم الانتماء إلى واقع ملموس.

أما المؤسسات التعليمية والثقافية، فهي الأقدر على تحويل البطولة إلى ذاكرة جمعية؛ منحة دراسية تحمل اسم إبراهيم، أو قاعة تعليمية تخلّد سيرته، أو برامج طلابية تستلهم قصته، كلها صور تجعل من تضحيته مادة حية للتربية الوطنية. فالمجتمع لا يحفظ تاريخه بالاحتفالات العابرة، بل حين يجعل من قصص أبطاله دروسًا باقية في الوعي الجمعي.

ويوازي ذلك دور الجمعيات الخيرية والقطاع الثالث، الذي يمكن أن ينظّم جهود التكريم في صورة برامج مؤسسية مستدامة، تُعنى بالأبطال وأسرهم صحيًا واجتماعيًا، وتوفر لهم فرص حياة كريمة، وعندما تتحول هذه الجهود إلى منظومة دائمة، فإن التكريم يغادر حدود العاطفة المؤقتة ليغدو مشروعًا وطنيًا طويل الأمد.

ويبقى الإعلام حجر الزاوية في إبقاء هذه الذاكرة حيّة، فالقصة التي لا تُروى تموت، والإعلام ـ بمقالاته الرصينة، وبرامجه الوثائقية، وأفلامه القصيرة ـ قادر على تحويل قصة فرد إلى وعي جمعي، يمنع التضحية من الذبول وسط ضجيج الحياة اليومية، وهنا لا يصبح الإعلام ناقلاً للحدث فقط، بل حارسًا للذاكرة ومجدّدًا لرمزية البطولة.

إن تكريم إبراهيم ليس تكريمًا لشخصه وحده، بل هو تكريم لفكرة البطولة نفسها، ولرمزية أن المجتمع لا ينسى من ضحّى لأجله، وحين يشعر المرابطون أن المجتمع ـ بأفراده ومؤسساته ـ يكرّم رفاقهم، فإن ذلك يعزز لديهم اليقين بأن التضحية تجد من يحفظها، وهذه المعادلة ليست معنوية فحسب، بل هي استراتيجية لبناء الثقة والولاء وتعزيز قوة التماسك الاجتماعي.

إن ما طرحه الدكتور عبدالله غريب بدعوته لتكريم إبراهيم يعيدنا إلى جوهر المسألة: كيف نصوغ ثقافة للتكريم تليق بأبطالنا؟ إن الإجابة تكمن في أن يتحول التكريم إلى ممارسة متكاملة الأبعاد: دعم مادي من رجال الأعمال، تخليد تربوي من المؤسسات التعليمية، برامج مستمرة من الجمعيات، ورواية إعلامية تحفظ الذاكرة حيّة، وعندها فقط يغادر التكريم حدوده اللحظية، ليصبح تقليدًا وطنيًا راسخًا يصنع ذاكرة الأمة.

ولعل عودة إبراهيم بعد سنوات العلاج ليست ختام قصة بطل، بل بداية لمسار يختبر وعينا كمجتمع: هل نكتفي بالعاطفة والاحتفاء، أم نصنع من التكريم ممارسة حقيقية تحيي قيم التضحية وتورّثها للأجيال؟ وإن أصدق وفاء يمكن أن نقدمه له ولأمثاله أن نجعل من قصصهم أساسًا لثقافة وطنية تقول: إن هذا مجتمع يعرف كيف يكرّم من ضحّى لأجله، ويصنع من وفائه ذاكرة لا تزول.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى