المقالات

موسم الرياض: نموذجٌ سعوديّ في هندسة الدهشة وصناعة التأثير

في زمنٍ تتسابق فيه المدن على جذب الأنظار وتوافد الزوار، لم تعد المسألة تتعلّق بمبانٍ ولا بمهرجانات، بل بقدرة المكان على صناعة الدهشة وتقديم نفسه للعالم في صورةٍ لا تُنسى، ومن هنا، لم يكن موسم الرياض حدثًا ترفيهيًا عابرًا، بل نموذجًا سعوديًّا متكاملًا في هندسة الدهشة وصناعة التأثير، إذ نجح في أن يجعل من الرياض كيانًا مُتْحَدِّثًا بلغاتٍ شتّى، تجمع بين الحلم والتخطيط، بين البهجة والإدارة، وبين الإقناع والمتعة.

والدهشة هنا ليست وليدة المصادفة، بل نتاج تصميمٍ واعٍ قائم على رؤيةٍ تُدرك أن الانفعال الإنساني هو أعلى درجات الاتصال، فالموسم لا يُراهنُ على العروض وحدها، بل على التجربة، على تلك اللحظة التي يفقد فيها الزائر إحساسه بالزمن، ويغدو جزءًا من المشهد ذاته.

لقد تحوّلت الرياض إلى مختبرٍ للدهشة تُدار فيه الانفعالات بذكاء بصري وصوتي، فتتنوّع المناطق الإحدى عشرة في موسم الرياض وفق منطقٍ سرديٍّ يجعل المدينة كأنها موسوعة حية؛ كل ركن فيها يحكي قصةً، وكل شارع يفتح فصلًا من رواية وطنٍ يتحدّث بلغة الفخر والإنجاز.

وفي هذا الإطار، برزت فكرة هندسة الدهشة كمفهومٍ تسويقيٍّ جديد، يتجاوز الإعلان إلى بناء التجربة، فالموسم يُقدَّم كمنتج متكامل، يبدأ من التصميم الحضري، ويمر بالإدارة اللوجستية، وينتهي عند الانطباع الذهني الذي يخرج به الزائر، وبذلك فهي منظومة تخضع للتخطيط، والاختبار، والتكرار، لتصنع أثرًا طويل المدى لا يزول بانتهاء الفعاليات، وقد أجاد القائمون على الموسم فَهْمَ المعادلة الدقيقة بين الدهشة والإدارة؛ فالإبهار هنا ليس فوضى أضواء، بل انضباط فكرة، تُدار فيها المشاعر بقدر ما تُدار فيها العقود والشراكات.

أما على مستوى التسويق الثقافي والوطني، فقد جسّد الموسم أحد أنجح نماذج القوة الناعمة في المنطقة، فالمملكة عبر هيئة الترفيه قدّمت تجربةً متفرّدة في كيفية توظيف الفن والحدث لصناعة صورةٍ ذهنية جديدة عن الوطن، تتحدث بلغة العصرية دون أن تفقد أصالتها، وبذلك لم يعد الموسم يُخاطب الداخل فحسب، بل بات موجَّهًا للعالم، عبر شراكاتٍ استراتيجية مع رموز الفن والرياضة والإعلام، وعبر حملات رقمية تتقاطع فيها لغات العالم في وسمٍ واحد هو: #RiyadhSeason، إنها بالفعل الدهشة بوصفها أداة دبلوماسية ناعمة، تُعيد تعريف صورة السعودية عالميًا، وتحوّلها من مستهلكة للترفيه إلى مُنتِجة للتجربة الإنسانية المتكاملة.

أما اقتصاديًا، فقد أوجد الموسم بيئة تشغيلية قائمة على مبدأ الحدث المستثمر، حيث تُدار الموارد البشرية، والفرص التجارية، والبنية التحتية بطريقةٍ تضمن عائدًا مزدوجًا: عائدًا اقتصاديًا مباشرًا، وآخر رمزيًا في الوعي الجمعي، فالدهشة هنا تتحول إلى عملةٍ وطنيةٍ جديدة، تُنفق بذكاء في سوق الصورة والمكانة.

ولأن إدارة الدهشة تحتاج إلى حوكمةٍ واعية، فقد نجح الموسم في ترسيخ نموذجٍ إداري يُمكن دراسته أكاديميًا؛ نموذج يُزاوج بين التخطيط الاستراتيجي والتفاعل اللحظي، وبين المركزية في الرؤية واللامركزية في التنفيذ.

وما يميز تجربة الرياض أنها لم تكتفِ بصناعة حدثٍ ضخم، بل صاغت فلسفةً جديدة في فهم المدينة، فالرياض لم تعد مكانًا تُقام فيه الفعاليات، بل غدت مدينةً تُنتج الدهشة، وتعيد اختراع نفسها كل يوم من خلال فضاءاتٍ تتحدّث بلغات الموسيقى، والفنون، والرياضة، والتقنية، والجمهور. إنها بالفعل التجسيد العملي لفكرة التسويق الحضري الثقافي، حيث تتحوّل الهوية إلى موردٍ اقتصادي، والدهشة إلى استراتيجيةٍ وطنيةٍ للاتصال والتأثير.

وفي نهاية المطاف، يُمكن القول إن موسم الرياض تجاوز مفهوم الترفيه إلى فضاءٍ أوسع هو الابتكار الاجتماعي، لأن ما يحدث هناك ليس مجرّد تنظيمٍ للمتعة، بل تخطيطٌ للمشاعر الجماعية، وتحوّلٌ في علاقة الإنسان بالمدينة.

لقد نجح الموسم في أن يجعل الرياض تخاطب العالم قائلة: إن الدهشة ليست لحظة عابرة، بل مشروع وطنيٌّ متجدد، يصنع الفخر… ويُعيد تعريف معنى الحياة في مدينةٍ لا تكفّ عن الطموح والارتقاء.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى