
احتشد الجميع في تأهّبٍ تام، صمتٌ رهيب يملأ الساحة، ممزوجٌ برائحة الموت، وحرُّ الصحراء يلفح الوجوه، يضاعف من قسوة اللحظة.
في ساحة الإعدام، وقف الرجل مكبّل اليدين، جبينه مرفوع كأنّه يتحدّى الشمس نفسها، يردّد الشهادتين بصوتٍ خاشعٍ مطمئنٍ، كمن يودّع الدنيا على يقينٍ بلقاء ربّه.
من خلف الشاشة، كانت طفلةٌ في العاشرة تحدّق بدهشة، تتتبّع ملامح وجهٍ نحله العمر والجهاد، ومع ذلك ظلّ يشعُّ سكينةً ونورًا. لم تكن تفهم تمامًا معنى الحرب ولا الاستعمار، لكنها شعرت أن هذا الشيخ يملك سرًّا لا يعرفه الآخرون، سرًّا يجعل الموت يبدو كطريقٍ إلى الحياة.
سمعت صوت أبيها يتسلّل إليها كأنّه حكاية تُروى في الليل:
“رحم الله عمر المختار… كان يعرف تضاريس ليبيا كراحة يده، يربك الأعداء بحكمته ودهائه، حتى سقط جواده ذات معركةٍ فوقع في الأسر.
كان شيخًا في الثالثة والسبعين، ومع ذلك لم يطلب الرحمة. قالوا له: لو استرحمتَنا لعفونا عنك، فقال: إننا لا نستسلم… ننتصر أو نموت.”
أخذت الطفلة تُعيد العبارة في داخلها، لا تفهم كل معانيها، لكن وقعها كان كجرسٍ يدقّ في قلبها الصغير.
تسأل نفسها بصوتٍ خافت:
كيف لا يهاب هؤلاء الرجال الموت؟
من أين تأتيهم هذه الطمأنينة؟
أحقًّا يمكن للإنسان أن يختار موته كما يختار طريقه إلى المدرسة؟
وفجأة، انطلقت أصوات الزغاريد والتكبيرات من قلب المشهد، تهدر كالعاصفة في وجه الجنود.
ارتبك الضباط الإيطاليون، وتراجعوا خطواتٍ إلى الوراء، وكأنَّ المشنقة التي نصبواها لشيخٍ واحدٍ تحوّلت إلى مئذنة تصرخ في وجوههم بالهزيمة.
أسدل الفيلم شاراته الختامية، لكن الصورة لم تُغادر روح الطفلة.
جلست تحدّق في الشاشة السوداء التي ما زالت تُشعّ في داخلها نورًا لا يُرى.
أمسكت قلمها الصغير، وكتبت في دفترها المدرسي بخطٍ متردّد:
“إننا لا نستسلم… ننتصر أو نموت.”
ثمّ ابتسمت، كأنها وقّعت أول عهدٍ في حياتها مع الشجاعة.