المقالات

هل الباحة بيئة جاذبة للاستثمار؟

يبدو السؤال عن جاذبية الباحة للاستثمار بسيطًا في ظاهره، لكنه في جوهره سؤال عن قابلية المكان للتحول من الجمال الطبيعي إلى القيمة الاقتصادية، وعن قدرة الإنسان المحلي على الانتقال من مجرد التلقي إلى القيام بالفعل، حيث لم تعد المسألة في أن تمتلك المنطقة مقومات سياحية أو موارد بيئية فحسب، بل في أن تتشكل لديها منظومة فكرية وتنظيمية تترجم هذه المقومات إلى فرص استثمارية واقعية قابلة للقياس والاستمرار.

وتعدُّ الباحة من أكثر مناطق المملكة تفرّدًا في موقعها ومناخها وتضاريسها، حيث تمثل نموذجًا صغيرًا لاقتصاد المكان، حيث الجبال والغابات والوديان والسدود تتجاور في لوحةٍ تمنح المستثمر قاعدة متنوعة من الموارد والسيناريوهات الاستثمارية الممكنة، وهذا التنوّع الطبيعي هو في ذاته رأس مال خامّ، لكنه لا يتحوّل إلى قيمة إلا إذا أُحسن توظيفه في سياق التنمية الحديثة، فالفرص في السياحة البيئية، والزراعة النوعية، والتعدين، واللوجستيات، والمنتجات الثقافية، والتعليم التطبيقي، ليست غائبة، لكنها تحتاج إلى رؤية متكاملة تربط بين الإنسان والمكان.

وخلال الأعوام الأخيرة، قدّمت الرؤية الحكيمة في المنطقة إشارات واضحة على الرغبة في الانتقال من مرحلة الترقّب إلى مرحلة التمكين، حيث دَشّنَ سمو أمير منطقة الباحة الأمير الدكتور حسام بن سعود مشاريع صناعية بقيمة تجاوزت ٨٩ مليون ريال، وأطلق مشاريع بلدية وإسكانية تقدر بـــ ٧٦٨ مليون ريال، إضافة إلى تطوير منظومة الطرق باستثمارات بلغت نحو ٤٢٩ مليون ريال، وهذه الخطوات ليست مجرد أرقام، بل مؤشرات على إرادة واضحة لتأسيس بيئة جاذبة تعتمد على بنية تحتية متينة، واستقرار إداري يُطمئن المستثمر، وحراك مؤسسي يربط الجامعة والقطاع الخاص بالتحول الاقتصادي المحلي.

وعلى المستوى الوطني، تكشف مؤشرات السياحة السعودية عن تحوّل لافت في بنية السوق واتجاهاته؛ فمنذ عام ٢٠٢٣، حين تجاوز عدد الزوّار حاجز ١٠٩ ملايين سائح بإجمالي إنفاق بلغ نحو ٢٥٥ مليار ريال، واصل القطاع نموّه ليصل في عام ٢٠٢٤ إلى أكثر من ١١٦ مليون زائر، بإنفاق تجاوز ٢٨٠ مليار ريال، وفق بيانات وزارة السياحة والهيئة العامة للإحصاء، وهذه القفزات المتتابعة تعكس نضج السوق الوطني واستجابة السياحة للتحولات الاقتصادية التي تقودها رؤية المملكة ٢٠٣٠، والتي تستهدف جذب ١٥٠ مليون زائر ورفع مساهمة القطاع إلى ١٠٪ من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام ٢٠٣٠، وفي ضوء هذا الزخم المتصاعد، تبدو منطقة الباحة أمام فرصة استراتيجية لتكون جزءًا فاعلًا من الحراك الاقتصادي الوطني الذي يُعيد رسم خريطة التنمية وتنوّع روافدها.

غير أن البيئة الجاذبة تُقاس غالبًا بقدرتها على بناء الثقة بين المستثمر والجهة المنفذة، فالمستثمر يبحث عن وضوح الإجراءات واستقرار السياسات أكثر من بحثه عن الموقع الجميل أو التصريح المؤقت، ومن هنا، تحتاج الباحة إلى الانتقال من مرحلة الفرص المتاحة إلى مرحلة الفرص الممكنة عبر تصميم حزم استثمارية متكاملة تجمع بين الأرض، والبنية، والتسهيل، والدعم، بحيث يشعر المستثمر أن المكان لا يمنحه الفرصة فحسب، بل يشاركه فيها.

وفي بعدٍ آخر، تمتلك الباحة رأس مال رمزيًا لا يمكن تجاهله، يتمثل في هوية المكان وجمال طبيعته وذاكرته الثقافية، وهي عناصر تُشكل اليوم قيمة اقتصادية حقيقية في عصر الاقتصاد الإبداعي، فحين يتحوّل التراث إلى منتج، والجمال إلى تجربة، والهوية إلى علامة، يصبح الاستثمار أكثر من مجرد نشاط مالي، بل مشروع وطني يصون الذاكرة ويخلق العائد.

إنّ جاذبية الاستثمار في منطقتنا لا تكمن في وفرة الموارد الطبيعية، بل في امتلاكها وعيًا يقرأ إمكاناتها ويحوّلها إلى قيمة مضافة، والباحة – بما تملكه من خصوصية مكانية وعمق ثقافي – مؤهلة لأن تكون نموذجًا مختلفًا؛ نموذجًا يوازن بين حماية الطبيعة وتنمية الإنسان، وبين الأصالة والانفتاح، وبين الذاكرة والمستقبل، وحينها يتجاوز السؤال حدود الجغرافيا: ليس “هل الباحة جاذبة للاستثمار؟” بل “هل نحن مستعدون للتفكير فيها كمنظومة اقتصادية متكاملة؟”، وعندما يتحقق هذا الوعي الجمعي، ستغدو قصة وعي وتنمية واستثمار، تبدأ بالجمال… وتنتهي بالازدهار.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لا والذي رفع السماء بلا عمد أنها أصبحت بيئة طارده مع موضوع مواقف السيارات والتصيد على الزبائن ففي اقل من أسبوع تحصلت على ثلاث مخالفات ب 575 ريال وأقسمت ان لا أعود إلى أسواق بالجرشي مرة أخرى وغيري كثيرون . اعلم أنها ألغيت في المنطقة الشرقيه لتضرر اصحاب المحلات واتمنى ان تلغى في منطقة الباحه لانزالمستفيد الأول والأخير مقاول اجنبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى