المقالات

أهم المؤشرات العالمية التي تقيس القدرة التنافسية: بوصلات الإصلاح في عصر التحول

في عالم تتصارع فيه الدول على جذب الاستثمارات والمواهب والابتكار، لم يعد النمو الاقتصادي وحده كافياً لقياس التقدم. هنا تبرز أهمية المؤشرات العالمية للتنافسية، التي تعمل كمرايا عاكسة للأداء الشامل و”بوصلات” استراتيجية ترشد الحكومات في رسم سياساتها. هذه المؤشرات المتعددة، بمنهجياتها المختلفة، تقدم رؤى متكاملة تكشف مواطن القوة والضعف في نسيج الاقتصاد والمجتمع، وتساعد في تحديد الأولويات بدقة علمية. في هذا المقال، نستعرض أربعة من أبرز هذه المؤشرات، مع تحليل لأهميتها العملية والدروس المستفادة منها.

أولاً: مؤشر التنافسية العالمية للمواهب (GTCI): معيار حرب الكفاءات

يُصدر هذا المؤشر سنوياً عن كلية إنسياد (INSEAD) بالتعاون مع معهد بورتولانز، وهو متخصص في تقييم قدرة الدول على جذب المواهب العالمية وتطويرها والاحتفاظ بها. يعتمد على 77 متغيراً ضمن ست ركائز تشمل: التمكين، الجذب، النمو، الاحتفاظ، والمهارات المهنية والعالمية.

· الفائدة والدلالات:
في اقتصاد المعرفة، يحدد هذا المؤشر الفائزين في “حرب المواهب”. الدول المتصدرة (كسويسرا وسنغافورة والدول الإسكندنافية) تتميز عادة بسياسات هجرة منفتحة، وأنظمة تعليمية متطورة، وجودة حياة عالية.
· الدروس المستفادة:
للارتقاء في هذا المؤشر، على الدول العمل على: تبسيط إجراءات استقطاب الكفاءات من الخارج وربط التعليم باحتياجات سوق العمل المستقبلية، وتعزيز بيئات العمل الجاذبة والداعمة للابتكار.

ثانياً: التصنيف العالمي للتنافسية (IMD): مرآة الكفاءة الشاملة

يُعد تصنيف المعهد الدولي لتطوير الإدارة (IMD) في سويسرا، والصادر منذ 1989، من أعرق المقاييس. يحلل 69 اقتصاداً عبر 336 معياراً تغطي أربعة محاور رئيسية: الأداء الاقتصادي، وكفاءة الحكومة، وكفاءة الأعمال، والبنية التحتية (بما فيها التقنية والتعليمية).

· الفائدة والدلالات:
تتفوق فيه دول صغيرة لكنها فعالة جداً في إدارة مواردها، مثل سنغافورة (المركز الأول لخمس سنوات متتالية) وسويسرا. يسلط الضوء على تأثير جودة الحوكمة والبيئة التنظيمية على القدرة التنافسية.
· الدروس المستفادة:
يؤكد أن الكفاءة والإنتاجية أهم من حجم الاقتصاد. ويشير إلى أن تحسين بيئة الأعمال عبر الشفافية وسهولة الإجراءات، والاستثمار في البنية التحتية الذكية، له أثر مباشر على الترتيب العالمي.

ثالثاً: مؤشر التنافسية العالمية للمنتدى الاقتصادي العالمي (GCI 4.0): الإطار التاريخي الشامل

كان هذا المؤشر، الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF)، الأشهر عالمياً حتى 2019. ورغم إيقافه، فإن إطاره التحليلي لا يزال مرجعية أساسية. كان يقيس الإنتاجية طويلة الأمد عبر 12 ركيزة شاملة، من جودة المؤسسات والبنية التحتية إلى ديناميكية الأعمال والقدرة على الابتكار.

· الفائدة والدلالات:
كان أداة لا غنى عنها للحكومات والمؤسسات الدولية (كالبنك الدولي) لتشخيص مفصّل للتحديات. ولا تزال العديد من الرؤى الوطنية، مثل رؤية المملكة العربية السعودية 2030، تستلهم هذا الإطار الشامل في وضع أهدافها وقياس تقدمها.
· الدروس المستفادة:
يذكرنا بأن التنافسية عملية متكاملة لا تقتصر على جانب واحد. النجاح يحتاج إلى عمل متوازٍ على جميع الجبهات: من استقرار الاقتصاد الكلي إلى تطوير المهارات وخلق بيئة ابتكارية.

رابعاً: تقرير التنافسية الثمانية (Eight): نموذج التنافسية المستدامة والشاملة

يقدم هذا التقرير الصادر عن مؤسسة Eight International الفرنسية منظوراً حديثاً وأكثر توازناً. فهو لا يقيس القوة الاقتصادية فحسب، بل يركز على التوازن بين أربعة أبعاد: الاقتصاد، المجتمع (التماسك والمساواة)، التعليم والبحث، والاستدامة البيئية.

· الفائدة والدلالات:
يجيب على سؤال: “التنافسية على حساب من؟”. تهيمن عليه الدول الإسكندنافية (السويد، النرويج، الدنمارك، فنلندا) لأنها تجمع بين اقتصاد قوي، ومجتمع متماسك، ومساواة عالية، والتزام بيئي راسخ. يحث هذا المنظور الدول على تبني نموذج تنموي يضع الإنسان والكوكب في قلب المعادلة.
· الدروس المستفادة: ا
لتنافسية الحقيقية في القرن الحادي والعشرين مستدامة وشاملة. يعزز هذا التقرير فكرة أن النجاح طويل الأمد يرتبط بتحقيق التوازن بين النمو الاقتصادي والرفاه الاجتماعي وحماية البيئة.

إن هذه المؤشرات المتعددة تكشف لنا أن التنافسية لم تعد مفهوماً واحداً، بل هي وجهات متعددة لعملة واحدة. فبينما يركز مؤشر المواهب (GTCI) على رأس المال البشري، ويهتم تصنيف (IMD) بالكفاءة المؤسسية، وقدم مؤشر (WEF) الإطار التشخيصي الأوسع، بينما يدفعنا تقرير (Eight) نحو نموذج أكثر استدامة وإنسانية.

الدرس الأهم للدول، التي تظهر تبايناً في أدائها بين هذه المؤشرات، هو ضرورة تبني رؤية متكاملة. فالاستثمار في التعليم والابتكار (كما يقيسه GTCI وGCI) يجب أن يقترن بتحسين كفاءة الحوكمة وبيئة الأعمال (كما يركز عليه IMD)، مع عدم إغفال البعد الاجتماعي والبيئي لضمان تنافسية حقيقية تدوم طويلاً (كما ينادي به تقرير Eight).

وباختصار، فإن هذه المؤشرات مجتمعة ليست سوى أدوات لرسم خارطة طريق نحو مستقبل أكثر ازدهاراً للجميع.
والله من وراء القصد.

وقبل أن أختم، أودّ الإشارة إلى أن التعريف بهذه المؤشرات استفاد بشكل كبير من الحوار العلمي الثري مع زميلي الأستاذ الدكتور رضا عبدالعال، عضو هيئة التدريس السابق في كلية الهندسة بجامعة الملك عبدالعزيز، فله مني كل الشكر والتقدير.

أ.د. عصام يحيى الفيلالي

أستاذ سابق – جامعة الملك عبدالعزي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى