المقالات

جيل واحد… وعصور متعاقبة: من العصر الزراعي إلى عصر الذكاء الاصطناعي

هو جيل وُلد على بساطة الأرض قبل أن تتبدل ملامح العالم من حوله، جيل بدأ خطواته الأولى بين الغنم والمزارع، يقرأ الزمن في حركة الضوء والظل، ثم وجد نفسه، في عمر واحد، ينتقل من المعرفة الشفوية إلى التعليم المنظم، ومن بطء السفر على الدواب إلى صدمة السيارة التي اختصرت المسافات وقلبت مفهوم الجغرافيا. تعرّف هذا الجيل إلى العالم أولا بالصوت عبر الراديو، ثم بالصورة عبر التلفزيون الأبيض والأسود فالملون، قبل أن يدخل عصر الاتصال المباشر مع الهاتف الأرضي، والفاكس، والبيجر، فالجوالات الأولى التي حملت التكنولوجيا من المتاجر إلى الجيوب.
ومع بداية الإنترنت والمنتديات تغير معنى التواصل والمعرفة، ثم جاءت وسائل التواصل الاجتماعي لتعيد تشكيل الوعي والعلاقات واللغة، وصولا إلى الذكاء الاصطناعي الذي يضع الإنسان اليوم أمام تحول لا يشبه أي تحول سبقه.
ليس هذا السرد تاريـخا للتقنية، بل نافذة لفهم وعي جيل عاش انتقالات كبرى في زمن واحد، وانتقل من عالم يعتمد على اليد والحواس إلى عالم تصنعه الخوارزميات.

هو جيل يمتد على قوس زمني شديد التحول؛ جيل بدأ حياته في إيقاع يشبه الأرض نفسها ثم وجد نفسه بلا مقدمات طويلة، في قلب ثورة صناعية رقمية متتابعة ومتسارعة، وكل محطة فيها تغير معنى العيش والوعي وطبيعة العلاقة بالعالم.

إنه جيل نشأ راعيا وزارعا، ينهض مع الفجر، يحفظ حركة الريح، ويفهم لغة الماشية والأشجار، ويقيس الزمن بالشمس لا بالساعات، حيث كانت الحياة لديه خبرة حسية صافية تعتمد على الجهد البدني وعلى العلاقات المباشرة بين الناس، ثم انتقل إلى مرحلة التعلم النظامي، فدخل المدرسة والجامعة، وتعرف على الورق والطباشير والكتب، واكتشف أن المعرفة لم تعد حكرا على الموروث الشفهي، وأن العالم أوسع من حدود القرية وأضيق من ضغطة زر.

بعدها واجه صدمة الحداثة الأولى عندما ظهرت السيارة؛ إذ كان السفر قبلها حدثا استثنائيا يحتاج أياما، فإذا به يتحول إلى ساعات قليلة، حيث اتسعت الجغرافيا، وتغير الإحساس بالمسافة، وبدأ هذا الجيل يشعر بأن الزمن نفسه يجري أسرع منه.

ثم كان الراديو نافذته الأولى على العالم، صوتا بلا صورة لكنه يهز الوعي والوجدان، حمل الأخبار، والقرآن، والأغاني، والخطب، فصار البيت يتسع لكل ما يجري خارج حدوده.

ثم جاء التلفزيون الأبيض والأسود، فتعلّم هذا الجيل أن يرى العالم، وبعده التلفزيون الملون الذي أعاد تشكيل الخيال والجماليات وربط البيوت بثقافات ووجوه ووقائع لم تكن لتصل من قبل.

ثم ظهر الهاتف الأرضي، الذي غير معنى التواصل والمسافة، ثم الفاكس الذي أدهش الناس بإمكانية إرسال الأوراق عبر الأسلاك، وبعده البيجر الذي صنع أول إحساس بالحضور الدائم والارتباط الفوري.

ثم جاءت الجوالات الأولى، كبيرة الحجم ضعيفة الإمكانات، لكنها كانت بداية انتقال الإنسان إلى عالم محمول معه في جيبه، وبعدها جاءت ولادة الإنترنت، ببطئه وصوته المعدني، بفضائه وانفتاحه، حيث فتح بابا لم يكن يمكن إغلاقه بعد ذلك.

ثم جاءت المنتديات بوصفها أول فضاء عام رقمي يتحدث فيه الناس ويتجادلون ويتعلمون، ومنها تطورت وسائل التواصل الاجتماعي التي كسرت مركزية الإعلام وأعادت تشكيل اللغة والهوية والعلاقات.

وأخيرا يقف هذا الجيل اليوم أمام الذكاء الاصطناعي، أكبر التحولات على الإطلاق؛ تقنية لا يكتفي الإنسان باستخدامها، بل تتعلم منه، وتشاركه التفكير وصناعة القرار والمعرفة، والقادم ربما لا يتصوره العقل ولا يستوعبه الخيال.

هذا جيل عبر من العصر الزراعي إلى الرقمي في حياة واحدة، هو جيل يحمل خبرة الأرض وذاكرة البدايات، ويعيش في الوقت نفسه تحت إيقاع الخوارزميات، وربما كان سر فرادته أنه الجسر الذي عبر عليه العالم من البساطة الثقيلة إلى التعقيد الخفيف، ومن المعرفة الشفهية إلى المعرفة المتدفقة بلا حدود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى