
الطائف من أقدم المدن في العالم وأكثرها ازدهارا فكريًا وثقافيًا واقتصاديا عبر التاريخ، عاش فيها عشرات الصحابة الكرام، وتخرج منها آلاف الأبطال والعلماء والقادة والمعلمون والمثقفون.
وفي هذا الحوار مع أحد أبنائها وأعيانها الذين قضوا من حياتهم سنين طويلة يراقبون تطورها وعمرانها وبنيانها، تأخذكم صحيفة “مكة” الإلكترونية في جولة تاريخية عبر محطات هامة في هذه المدينة بلقاء شيّق غني بالمعرفة مع أستاذ الفقه بجامعة أم القرى الدكتور عبدالله بن عيضة بن مسفر المالكي.
نرحب بك أستاذنا الفاضل في هذا الحوار الممتع؛ لنتحدث فيه عن الطائف الروح والقلب؟
حينما نتحدث عن الطائف تمر على الذاكرة طبيعة المكان الذي عشت فيه، وتستعيد ذاكرة ماضيه إذا بقي من ذاكرة أيام الصبا شيء، تذكر حينها اسم الحجر والشجر والجبل والوادي. وكأنك تراه رأي العين. إنه عشق المكان يا سيدي ،،،،، يمثل للعاشق تاريخ حياة، ويمثل له كذلك جغرافية مكان، تتناغم على خاطره، وتهيم بها عاطفته ،،،، وكأنه يستعيد عجلة الزمان إليه ،،، فقد نقش الزمان له في ذاكرته أحداث لا تنسى من ذلك المكان والزمان.
ولعلي هنا أستعيد من ذاكرتي شيئاً عن أكثر مكانين عشت فيهما، وكلاهما مرتبط بالآخر إدارياً، فقريتي ببني مالك الحجاز، (قرية ود) من الجبل الأبيض جبل إبراهيم، وعن محافظة الطائف المأنوس الرابض على جبل غزوان. إذ في كل جزء من ذاكرتي حدثٌ فيهما، وكأنه قد حدث اليوم أو قبل اليوم بيوم.
دكتور عبدالله.. كم عامًا قضيت في الطائف وكيف تصف هذه السنين الطويلة؟
ستون عاماً من العمر قضيتها بين الطائف وقرية ود، وتجول بي الذاكرة الآن بعد تقاعدي للوقوف على أطلال المكان والزمان، وإعطاء صورة ذهنية لأجيال اليوم، وهم ينعمون برفاهية وعطاء هذا العصر الميمون الزاخر بالتنمية في شتى مجالات الحياة ومرافقها في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين حفظهما الله.
أنا من مواليد عام ١٣٧٩ هـ في قرية تحيط بها صخور الجرانيت من كل مكان ( قرية ود ) بجبل إبراهيم بنو مالك الحجاز، مركز القريع، ونشأت ريعان طفولتي بالقرية أعوام الثمانينات ١٣٨٠- ١٣٨٩هـ. بين أبوين وأقارب وأقران.
وفي أعوام التسعينات هجرية رحلت من القرية إلى الطائف على بعد ١٨٥ كيلومتر للالتحاق بمدرسة عبدالله بن عباس الابتدائية عام ١٣٩٠ هـ وعمري حينها قد تجاوز العاشرة، وبصعوبة قبلت بالمدرسة أنا وأخي وابن عمي لأننا نقرأ ونكتب بشكل جيد، فوالدي قد علمنا ذلك في القرية، فهو إمام مسجد القرية ومن أعيانها.
كيف كان شكل المدينة حينما خرجت من القرية؟
خرجت من قرية إلى مدينة، وكان المجتمع الطائفي في ذلك الوقت بالنسبة لأبناء القرى الوافدين إليها بمثل – صدمة حضارية – من قرى رعي وزراعة، إلى بلد تجارة وعمار، فهو في نظرهم يعتبر مجتمعا حضاريا راقيا، تزخر بيوته بالفرش والأثاث الأنيق، ويتميز أهله بالرفاهية ورغد العيش والتعليم.
في نظرك ما هي الأسباب وراء ذلك التطور الحضاري في الطائف ؟
في واقع الأمر ذلك التطور الحضاري – على حسب مستوى إمكانات ذلك الوقت – ما كان ليكون للطائف إلا لثلاثة أسباب جوهرية: السبب الأول: أنه بعد توحيد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه لهذا الوطن الكبير ( المملكة العربية السعودية ) استتب الأمن بين الناس ولله الحمد في قراهم وهجرهم ومدنهم، وأصبح النسيج الاجتماعي البشري المتعدد في أعراقه، المتحد في انتمائه وجنسيته السعودية في محافظة الطائف كغيرها من المدن الأخرى متجانس، ومتآلف، حاضره وباديه. بل وأصبح من المقبول جداً وجود التزاوج بين الأسر فيه وبين القبائل المجاورة له بلا غرابة، بعد أن كان ذلك الأمر من قبل مستغرباً، أو قد يكون مستحيلاً.
أما السبب الثاني: أن محافظة الطائف كان التعليم فيها متأصلاً منذ وجود الصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنهما في القرن الأول للإسلام ومدرسته المتنوعة العلوم النظرية، كالتفسير والفقه واللغة والشعر والسيرة والتاريخ وغيرها، وعلى امتداد تاريخ محافظة الطائف العريق، والتعليم فيها متأصل وضارب بجذوره، نظراً لازدهار الطائف في العصر الجاهلي القريب من صدر الإسلام.
وتجدر الإشارة إلى أن مكانة الطائف الاجتماعية ارتفعت منذ ذلك الوقت، حيث استقر بها سلالة لعدد من الصحابة رضي الله عنهم منهم: حبر الأمة الإسلامية عبدالله بن عباس، وعمرو بن العاص وأولاده وأحفاده، وزياد بن أبيه الذي كان مولده بالطائف، وجُمعت له ولاية العراق وخراسان وسجستان والبحرين وعمان، وكان أحد الدهاة العرب آنذاك، والحجاج بن يوسف الثقفي الذي تولى إمارة الحجاز والعراق في العهد الأموي، والشاعر العرجي الذي ولد في العرج إحدى قرى الطائف، وهو من ولد عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، وأيضاً المغيرة بن شعبة الثقفي، أحد دهاة العرب، وطريح بن إسماعيل الثقفي الشاعر، وعثمان بن ربيعة الثقفي الذي حكم الطائف، وحارب أهل الردة، وأيضاً منهم القاسم بن أمية بن أبي الصلت الثقفي وهو صحابي وشاعر، ومنهم أمية بن أبي الصلت، الشاعر ومنهم والده الشاعر أبو الصلت الثقفي، وكنانة بن عبد ياليل أحد رؤساء ثقيف الذي أبى أن يدخل في الاسلام، وبقي على دين الجاهلية، ومات في أرض الروم، ومن النساء بادية بنت عبد الله الثقفية الصحابية التي كتمت إسلامها عن قومها وهي بالطائف، من حين خروج النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم من الصحابة والتابعين والأعلام من فقهاء وأدباء وأصحاب فنون.
والسبب الثالث: وجود عدد من الأسر العلمية في محافظة الطائف التي كان لها دور ريادي في طباعة التراث وتعليمه منها: أسرة آل كمال. أسرة آل قاضي. أسرة آل حريب. أسرة آل النجار. أسرة آل القاري. أسرة آل سراج. أسرة آل راضي. أسرة آل سنبل. وغيرها من الأسر، التي درجت في أروقة العلم، وكان لها دور بارز في الحركة العلمية والثقافية في مدينة الطائف.
هل تحدثنا عن رحلتك التعليمية بعد الابتدائية والمعهد العلمي؟
كما سبق وقلت أنني درست المرحلة الابتدائية ما بين مدرسة عبدالله بن عباس بمجمع نجمه التعليمي بحي العزيزية بالطائف ١٣٩٠هـ، ومدرسة الحسن بن الهيثم بالشهداء الجنوبية عام ١٣٩٥ هـ، ومدرسة عمر بن عبدالعزيز التي حصلت منها على الشهادة الابتدائية عام ١٣٩٥-١٣٩٦هـ، والتحقت بعدها لدراسة المتوسطة والثانوية بالمعهد العلمي التابع لجامعة الإمام. إذ كان المعهد يعطي مكافأة للطالب مقدارها مائتان وعشرة ريالات شهريا، وكانت تسد رمق الدارس المغترب.
وكان يدرس المعهد بعض المواد العلمية كالعلوم الطبيعية الأحياء والفيزياء والكيمياء والعلوم الرياضية كالجبر والحساب مع المواد الشرعية ومواد اللغة العربية ومواد العلوم الاجتماعية؛ إلا أنه في العام الذي يليه عام ١٣٩٧هـ ألغيت المواد العلمية التطبيقية مع شديد الأسف، وكنا ندرس في المعهد السنة الدراسية ثمانية أشهر، وفي نهاية العام الدراسي نعود إلى القرية لمساعدة الأهل في الزراعة والفلاحة والرعي وما إلى ذلك من الأعمال القروية.
في عام ١٤٠٢ حصلت على الشهادة الثانوية والتحقت بكلية الملك عبدالعزيز الحربية بالرياض، إلا أنني لم أستطع الاستمرار نظراً لقساوة التدريبات الميدانية فيها؛ فخرجت منها ثم التحقت بجامعة الإمام لفصل دراسي واحد، وبعده حولت إلى كلية التربية بالطائف فرع جامعة أم القرى قسم الدراسات الإسلامية، ومنه تخرجت، وعملت في التعليم الثانوي لمدة ثلاث سنوات ثم حولت إلى معيد بالقسم الذي تخرجت منه وذلك في عام ١٤٠٩هـ .
ماذا تود أن تضيف في ختام هذا اللقاء الشيّق؟
في ذاكرتي الشيء الكثير عن هذه الأجزاء من وطني الغالي الكبير، وعلى الأخص بنو مالك الحجاز ( قرية ود ) ومحافظة الطائف المأنوس، وفي الختام لا أستطيع القول إلا ما قاله الرومي:
ولي وطنٌ آليتُ ألاّ أَبيعهُ
وألاّ أرى غيريْ لهُ – الدهرَ – مالِكا
عهِدتُ به شَرْخَ الشبابِ ونعمةً
كنِعْمَةِ قوم أصبحُوا في ظِلالِكا
وحبَّبَ أوطانَ الرجالِ إليهمُ
مآرِبُ قضَّاها الشبابُ هُنالكا
إذا ذَكَروا أوطانَهم ذكَّرَتْهُمُ
عهودَ الصِّبَا فيها فحنُّوا لذلِكا
لقد ألِفَتهُ النفسُ حتى كأنّهُ
لها جَسَدٌ إن بانَ غُودِرَ هالكا