المقالات

البنيويَّة وفِتْنَتُها (٢-٢)

إنَّ العُلُوم والفلسفات والنَّظريَّات ليسَتْ جَوَامِدَ لا رُوح فيها. إنَّها تُوْشِك أنْ تَكُون كائناتٍ حَيَّةً، لاتِّصالها بالإنسان، مُؤَلِّفًا، ومُنْشِئًا، وقارئًا، ومُتَلَقِّيًا، فكِتاب في الشِّعْر الجاهليّ لطه حسين (1344هـ = 1926م)، ليس هو ما اشتملَ عليه مِنْ أبوابٍ وبُحُوثٍ، فَحَسْبُ. إنَّ ذلك يَعْنِي الباحثَ الَّذي هَمُّهُ العِلْم أو النَّقْد الَّلذَان انطوَى عليهما = ولكنَّ الشِّعْر الجاهليّ هو، أيضًا، دار النَّشْر الَّتي نَشَرَتْه، والمطبعة الَّتي طَبَعَتْهُ، وعَدَد نُسَخه، وأمكنة تَوزيعه، وتَلَقِّي النَّاس له، وهو، كذلك، اختلاف القَوْم فيه، والمحكمة، والقاضي، والجامِعة، والطُّلَّاب. ومَرَّ بي، وأنا أقرأ رسائل الرَّافعي إلى محمود أبي رَيَّهْ، أنَّ مُعْجَم القامُوس المُحِيط للمَجْد الفيروزباديّ، ومُعْجَم تاج العَرُوس للمُرْتَضَى الزَّبيديّ كانا كَثِيرَيِ الوُجُود، سنة 1333هـ = 1915م، وأنَّ مُعْجَم لِسَان العرب لابْن منظور قليلةٌ نُسَخُه، أمَّا اليَوْم فَلِمُعْجَم اللِّسان الغَلَبَةُ والسَّطْوَة، ومِنْ تاريخ الثَّقافة، ومِنَ التَّأريخ للكُتُب وأنماط القراءة بيانُ ذلك وتعليله. ويُشْبِهُهُ في النَّوْع شُيُوع تَفْسير البيضاويّ، في القُرُون الماضِيَة، حتَّى إذا كان العَصْر الحديث كُتِبَتِ الغَلَبَة لـ تَفْسِير ابن كثير. لا رَيْب أنَّ لذلك أسبابًا، قَدْ لا تَتَّصِل بالعِلْم، وَحْدَه، وعلينا أنْ نَبْحَثَ عنْ عِلَّة خُفُوت صِيتِ كِتابٍ، كان بالأمس ذائعًا، والعكس صحيح.
فإذا بَلَغْنا البنيويَّة وأخواتها، استجلَبَ نَظَرَنا – يَوْمَ كان لها جَلَبَةٌ وسُلْطان – كُتُبٌ، وأنديةٌ، وصُحُفٌ ومَجَلَّاتٌ، رَفَدَتْها وآزَرَتْها في غير ناحِيَةٍ مِنَ العالَم العربيّ، وفي فرنسة، وفي أمريكة. وقِسْ على ذلك التَّفكيكيَّةَ، ومذاهبَ أُخْرَى ونظريَّاتٍ، في القراءة والتَّفسير والتَّأويل والتَّلَقِّي. إنَّ العناية بما يَحُفُّ بالبنيويَّة هو جُزْءٌ مِنْ تاريخها، ونحن نستطيع أنْ نَقْرَأَ وُجُودِيَّة سارتر قراءَتين؛ نستطيع أنْ نقرأها قراءةَ بَحْثٍ وتفكيرٍ، في مَتْنها الوُجُود والعَدَم، ونستطيع أنْ نقرأها في مُخَالَطَتِها النَّاسَ، منذ أصبحَتِ الوُجُوديَّة أُسْلُوبًا في الحياة، وطريقةً في التَّفكير، ونستطيع أنْ نَتَتَبَّعَ رائد السَّارتريَّة في القَهْوَة، وفي النَّادي، والمَلْهَى، وأنْ نَتَقَصَّى أَثَرَ وُجُوديَّته في المُثَقَّفِين، في فرنسة وأوربَّة وأمريكة، وهُنا في العالَم العربيّ، وبِوُسْعنا أنْ نُحْصِي طبعات كُتُبه، وترجماتها، ونُسَخها الشَّعبيَّة، وقُرَّاءَها الحقيقيِّين، وأولئك الَّذين ادَّعَوْا قراءتها، وأولئك الَّذين تَلَخَّصَتِ السَّارتريَّة عندهُمْ في اصطناع لَفْظَةٍ مِنْ هُنا ولَفْظَةٍ مِنْ هُناك، مِنَ ألفاظ الوُجُودِيَّة، ليس أكثر!
أردْتُ شيئًا مِنْ ذلك في هذا الكِتاب. أردْتُ أنْ أَصِلَ إلى أَثَر البنيويَّة وأخواتها، أوَّلَ ما كُتِبَ لها الذُّيُوع في حياة المثقَّفين في المملكة العربيَّة السُّعُوديَّة، وكان أَمْرُها عَجَبًا، ثُمَّ مِلْتُ إلى العالَم العربيّ، حتَّى إذا فَرَغْتُ مِنْه، أَقْبَلْتُ على أوربَّة؛ على رُوْسِيَّة، وتشيكوسلوفاكية، أَتَقَصَّى أَصْل نَشْأَتها، وفي فرنسة، أرض ميلادها، ثُمَّ في أمريكة، وكان يَعْنِيني مَهْجَرُها العربيّ، في المشرق والمغرب. كانَتِ البنيويَّة، أينما وُجِدَتْ، مَبْعَثَ الفِتْنَة والطَّرَافة، وكانَتُ غايتي أنْ أَتَتَبَّع هذه الفِتْنَة، تلك الَّتي عاينْتُها، أَوَّلَ عَهْدِي بها، هُنا في المملكة، وعلى مَقْرُبةٍ مِنِّي في مدينة جُدَّة: في النَّادي، والقَهْوَة، والصَّحيفة، والمكتبة، والجامِعة، والمدرسة، والمعهد. وأدركْتُ، منذ تلك اللَّحْظَة، أنَّ فِتْنَة البنيويَّة أَشَدُّ إثارةً مِنْ منهجها، فَالتماسُ المنهج – أو النَّظريَّة – أَمْرٌ شاقٌّ وَعْرٌ، أمَّا ظِلالُه وما يَحُفُّ به، فَأَمْرٌ طريفٌ غاية الطَّرَافة، وسَرْعانَ ما بَلَغَتْ عَدْوَاها خُصُومَها والمُتَعَصِّبين عليها، فَصَدَرُوا عنْ كَلِمِها ومُصْطَلَحها، في حِقْبَةٍ كان الجَمِيع مُتَهَوِّسًا بمفردات “البِنْيَة”، و”النَّصِّ”، و”الخِطَاب”، و”تَفْكيك النَّصِّ”… إلى آخِر تلك الألفاظ الحداثيَّة الخَلَّابة!
إذنْ، لنْ أَحْمِلَ جديدًا لوْ خَفَفْتُ إلى تلخيص مناهج البنيويَّة وأخواتها، ولنْ أَزِيدَ بِهِنَّ بيانًا، لِلَّذي قُلْتُهُ أعلاهُ، ثُمَّ إنَّ نَفْسِي أَجِمَتْ طائفةً مِنَ الكُتُب العربيَّة ذات المُسُوح الحداثيَّة، ولا تكاد تُسِيغُها، حتَّى إذا أَقْبَلْتَ عليها كَشَفْتَ ما فيها مِنْ قَصٍّ ولَصْق. أَدْرَكَ القارئُ العربيُّ ذلك، مُبَكِّرًا، وإذا ما استعادَ شيئًا مِنْ تلك المؤلَّفات، فغايَتُهُ التَّاريخ ليس إلَّا، وواجِبٌ عَلَيَّ أنْ أستثني مِنْ مُؤَلَّفات النَّشْأَة الأُولَى كِتاب مُشْكِلة البِنْيَة أوْ أضواء على البنيويَّة لزكريَّا إبراهيم (1396هـ = 1976م)، والأُسْلُوبيَّة والأُسْلُوب لعبد السَّلام المَسَدِّيّ (1397هـ = 1977م)، أمَّا مَنْ تَوَهَّمَ أنَّ العرب لمْ يَعْرِفُوا البنيويَّة إلَّا يَوْمَ وَضَعَ كِتابًا فيها، فَحَسْبُهُ أن يَعْرِف، بَعْد كُلِّ هذه العُقُود، أنَّ كِتابه مَرَّ مَرًّا سَرِيعًا، وأنَّه أَدْرَكَهُ الغِيَابُ ساعةَ ميلاده!
وأَصْلُ هذا الكِتاب محاضرةٌ بالعُنْوان نَفْسه: “فِتْنةُ القَوْل بالبنيويَّة”، ألقيتُها في نادي أبها الأدبيّ، في 28 مِنْ شَهْر شَوَّال سنة 1437هـ، وتَلَقَّاها الجُمْهُور الكريم بِقَبُولٍ حَسَنٍ، وَحَثَّنِي بعضُ الصَّدِيقِ على أنْ أُحَوِّلَ المحاضرةَ إلى كِتابٍ – أوْ كُتَيِّبٍ – فَنَظَرْتُ فيها، ثُمَّ صَرَفَنِي عن البنيويَّة وأخواتها دَوَاعٍ وأحوال، حتَّى إذا غَشِيَتِ العالَمَ – وبلادُنا جُزْءٌ مِنْهُ – “جائِحَةُ كورونا”، ولَزِمْنا بُيُوتَنا لا نُغادرها، قُلْتُ: فَلْأَكُنْ بنيويًّا، وَلْأَعُدْ إلى أوراقي تلك، ورَجَعْتُ، عَوْدِي على بَدْئي، أقرأ في البنيويَّة وأخواتها، ومَلَأْتُ نَفْسي مِنْ كلام أعلامها وخُصُومها، ولمْ تَخْذِلْني خِزَانة كُتُبي – والحَمْدُ لله – وشَدَدْتُ حيازيمي، وأَخَذْتُ أَنْظُرُ في عَشَرَات الكُتُب والصُّحُف والمجلَّات، مِنْها الوَرَقِيّ، ومِنْها الإلكترونيّ، وكُنْتُ – وأنا حِلْس بَيْتِي – أَصْحُو على البنيويَّة، وأنامُ عليها، وتَبَسَّطَ الكلام في مَسالك الفِتْنَة، فإذا ما كان في النِّيَّة كُتَيِّبًا، يُصْبِح – ولله الحَمْدُ والمِنَّة – هذا الكِتاب الَّذي تَتَبَّعْتُ فيه “الفِتْنة” حيث وَجَدْتُها، وكانَتِ البنيويَّةُ، لا شَكَّ، فاتِنَةً، ومِنْ فِتْنَتِها أنَّها أَغْرَتْنِي بِالسَّيْر في أَثَرِها، فإذا في الكِتاب نَبَأٌ جديدٌ عَنْها، طَوَتْهُ الأيَّام، حتَّى تَجَلَّى لي عند نَفَرٍ مِنْ آباءٍ لها، قُدَامَى مجهولين، في العالَم العربيّ، سَتَمُرُّ بك أسماؤهم – أيُّها القارئ الكريم وأيَّتُها القارئة الكريمة – كُلَّما مَضَيْتُمَا فيه.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. عجيب يا سيد حسين
    قرأت المقالين حرفًا حرفًا .. فأرهقني التركيز الشديد .. لأتمكن من استيعاب المضمون العميق واستقصاءك المتشعب
    فكيف إذن سيكون الكتاب؟!
    هذا فضلاً عنا اعتدناه من اللغة الراقية الرصينة المتماسكة
    يا سيدي .. جعلتني أشك ممن صدعونا صياحًا بتبني البنيوية .. قد اطلعوا على معشار ما استقصيتَه طولا وعرضا وعمقًا
    مجهودك يفوق كلمات الشكر .. أكثر الله من أمثالك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com