المقالات

ماذا يَبْقَى مِنَ القُصَيْبِيّ للتَّاريخ؟

الأدباء والمُؤَلِّفون الَّذين نُحِبُّ كُتُبهم هُمْ أصدقاؤنا، نَسْأَل عنهم ما عاشُوا بيننا، ونَفْرَح إذا التَقَيْنا واحِدًا مِنْهُم في الطَّريق، أو السُّوق، أو القَهْوَة. نَسْأَل عنْ مُؤَلَّفاتهم كُلَّما غَشَيْنا المكتبات، ونَأْسَى إذا تَأَخَّرَ صُدُور كِتاب لِأَحَدهم، مُدَّة حياته، فإذا ماتوا صارَتْ كُتُبهم، مِنْ بَعْدِهِمْ، أصدقاءَنا.

هكذا كان حالِي مَعَ الأدباء والمُؤَلِّفِين الَّذين مَرَّتْ بي كُتُبُهم أوْ مَرَرْتُ بِها! – هلْ هناك مِنْ فَرْق؟! – وأَجْمَلُ الكُتُب تلك الَّتي عَرَفْتُها في سَنَوَات النَّشْأَة الأُولَى، فَلَمَّا تَبَدَّلَ الرُّوح، وقَبِلْتُ واطَّرَحْتُ، كانَتْ كُتُبٌ بِعَيْنها بِمَنْزِلة الأصدقاء الَّذين عَرَفْتُهُمْ في مُقْتَبَل الشَّبَاب، وما تَغَيَّرَ شُعُوري تُجاهَهُم، مهما تَقَدَّمَتْ بي السِّنُّ وتَنَاهَبَتْنِي الأفكار؛ لأنَّ في ذلك الصَّدِيق شيئًا هو أكبر مِنْ تَغَيُّر الأزمنة، وأَبْعَد مِنْ شُعُورٍ ساذَجٍ يُوْهِمُنا بِمَعْنَى الصَّداقة، حتَّى إذا حَقَّقْناها، جازَ أنْ تَكُون أيَّ شيء إلَّا أنْ تَكُون صداقةً، وغابَ عنها شيءٌ يُوْشِك أن يَكُون “الضَّمِير”، حتَّى إذا حَقَّقْتُ معناه أَلْفَيْتُ ذلك الصَّديق هو ذلك الضَّمِير الَّذي أُحِسُّ أَثَره في نَفْسي، مهما استخفَى فلَمْ أَسْتَبِنْه.
وعلى ذلك كانَتْ تلك الكُتُب وكان أولئك المُؤَلِّفُون.

حينما كان العُمْرُ طَرِيًّا، والفُؤَادُ غَضًّا، عَرَفْتُ شِعْر غازي القُصَيْبِيّ وصديقي عبد الله الطَّيَّاريّ مَعًا، فلَمَّا مَضَى الزَّمان بي وبالقُصَيْبِيّ وبالطَّيَّارِيّ، وتَنَاثَرَتْ بنا الدُّرُوب، كُنَّا نَحْنُ الثَّلاثة: أنا والطَّيَّاريّ وكُتُب غازي القُصَيْبِيّ! أَلَمْ أَقُلْ إنَّ المُؤَلِّفِين الَّذين نُحِبُّهُمْ هُمْ أصدقاؤنا؟!

لمْ يَكُنْ غازي القُصَيْبِيّ كأيٍّ مِنَ الأدباء والمُؤَلِّفِين الَّذين اتَّصَلْتُ بِكُتُبهم في ذلك العَهْد مِنْ عام 1402هـ. كان وزيرًا يَوْمَ كُنَّا نَحْفَظ أسماء الوزراء كُلِّهم، واحِدًا واحِدًا، لكنَّه كان شاعِرًا، عَرَفْتُه – أَوَّلَ ما عَرَفْتُه – ساعةَ اتَّصَلْتُ بمكتبة تِهَامة، يَوْمَ كانَتْ تِهَامة! فلَمَّا ظفرْتُ بديوانه الحُمَّى كُنْتُ كأنَّما وَقَعْتُ على كَنْزٍ عظيم – أَلَمْ يَكُنْ كَنْزًا عظيمًا؟! – كان شيئًا جديدًا لطالِبٍ في الثَّانويَّة، كان الأدب كُلُّه عِنْدَه استعارةً تصريَّحيَّةً، وأُخْرَى مَكْنِيَّةً، وتَشْبِيهًا بليغًا، ومُشَبَّهًا ومُشَبَّهًا به ووَجْهَ شَبَهٍ! كانَتِ البلاغة هي ذلك الدِّيوان، وكان الحُمَّى هو البلاغة الَّتي تَمْشِي مَعِي في الشَّارِع، وأَلُوذ بها في البَيْت، وكان ذَوْقِي وتَجْرِبَتِي يتكوَّنان كُلَّما مَضَيْتُ في صُحْبة صديقَيَّ غازي وعبد الله. كان مَعِي في دَرْس البلاغة، وكان مَعِي كُلَّما اتَّصَلَ الحديث بيني وبَيْنَ عبد الله، وكان القُصَيْبِيّ الشَّاعر والوزير مَحَلَّ اتِّفاقِنا، ومِنْ حُسْن حَظِّي وحَظِّ القُرَّاء أنَّه كان أديبًا غزير التَّأليف، وكان يُتْحِفُنا بِدِيوان شِعْرٍ، فإنْ لمْ يَكُنْ فبكتابٍ يَجْمَع طائفة مِنَ الفُصُول الَّتي أَذاعَها في الصِّحافة، قَبْلَ أن يُنْشِئ رِوايةً فيصبح الشَّاعِر والكاتِب والرِّوائيّ!

ماذا يَبْقَى مِنْ غازي القُصَيْبِيّ للتَّأريخ؟
كان الشَّاعر المِصْرِيّ صلاح عبد الصَّبُور كَتَبَ جُمْلةً مِنَ المقالات عنْ طه حسين والعقَّاد وتوفيق الحكيم وإبراهيم المازِنِيّ، يَنْظِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ سؤالٌ صَعْب: ماذا يَبْقَى مِنْهُمْ للتَّاريخ؟ وكانَتْ هذه المقالات، أيضًا، عنوانَ واحِدٍ مِنْ أَمْتَع كُتُبه.
أراد عبد الصَّبُور أن يَكْشِف سِرَّ البقاء، أن يَعْرِف إجماع المُثَقَّفِين العرب على هؤلاء الأدباء، فاستبانَتْ له تَفْرِقةٌ طريفةٌ عساها تَجْلُو ذلك السِّرّ. قال صاحِب دِيوان النَّاس في بلادي: إنَّ هناك فَرْقًا بين الأديب الكبير والأديب التَّاريخيّ، وقال: إنَّ الأديب الكبير هو مَنْ يَضَع عَمَلًا مُتْقَنًا، أَمَّا الأديب التَّاريخيّ فهو ذلك الَّذي يُحْدِث تَغَيًّرًا وتَبَدُّلًا في الذَّوْق والتَّعبير، وليس حَتْمًا أن يكون السَّابِقَ فيما تَصَدَّى له؛ فطه حسين أَنْشَأَ غير رواية، وله كُتُبٌ في تاريخ الأدب، والنَّقْد الأدبيّ، والتَّاريخ العامّ، لكنَّ هذا الأديب الكبير لَمْ يَبْلُغْ في هذا الفَنّ أوْ ذاك ما بَلَغَه رِوائيُّون ونُقَّاد ومُؤَرِّخو أدب، تَوَفَّرَ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمْ على صَنْعته، وأَجادَ فَوْقَ إجادة عَمِيد الأدب العربيّ، ولا رَيْبَ في أنَّ أَثَرَ طه حسين في عَصْره كان بالِغًا جِدًّا، وما أصاب الأدبَ العربيَّ الحديثَ مِنْ جِهَاده ليس بالشَّيء الهَيِّن اليسير، يَفُوق، في عُمُومه وشُمُوله، أَثَر هذا الرِّوائيّ أوْ ذلك الشَّاعر أو المُؤَرِّخ أو النَّاقِد.

كان غازي القُصَيْبِيّ يقول – مازِحًا أوْ جادًّا – إنَّه شاعِر مِنَ الدَّرَجة الثَّالِثة! ورُبَّما عَدَدْنا ذلك تَوَاضُعًا أوْ ما يَدْنُو مِنَ التَّواضُع، وما يُدْرِينا فلعلَّه اعتراف نادِرٌ أن يَبُوح به الأدباء، يُدَانِي اعتراف سَلَفه الشَّاعر أحمد الغَزَّاوِيّ لَمَّا قال:
عَرَفْتُ مِنْ ذَاتِ نَفْسِي غَيْرَ مَا عَرَفُوا فَمَنْ يَلُومُ إِذَا مَا قُمْتُ أَعْتَرِفُ؟لكنَّ صاحِب أشعار مِنْ جزائر اللُّؤْلُؤ، في الحِقْبة البَحْرانيَّة، وأنتِ الرِّياض في الحِقْبة السُّعُوديَّة، كان مُؤَثِّرًا في شُعراء جِيله، والَّذين يَلُوْنَهُمْ، ورُبَّما كان تأثيره في شُعراء البحرين يَفُوق تأثيره في شعراء بلاده، لَمَّا كان القُصَيْبِيّ مَعْدُودًا فيهم، فعلى هذا الوَجْه الَّذي يقول به صلاح عبد الصَّبُور، كان القُصَيْبِيّ أديبًا تاريخيًّا لا يستطيع مُؤَرِّخ الأدب ولا النَّاقِد الأدبيّ أن يَمُرَّا به مَرًّا سَرِيعًا، ولا أن يَسُوقا اسْمَه قَبْلَ اسْم أديب، وبَعْدَ اسْم أديب آخَر، ثُمَّ يَمْضِيا إلى شَأْنهما، وإذا شِئْتُ القِيَاس على كلام الشَّاعِر المصريّ، فمحمَّد حسن عوَّاد ليس في مِيزان الشِّعْر بِأَشْعَرَ مِنْ حمزة شحاته أوْ حسين سرحان، لكنَّ صاحِب خواطِر مُصَرَّحة أَبْعَدُ أَثَرًا مِنْ هذين الشَّاعِرَيْن ومِنْ سِوَاهُما، فهو، إذنْ، أديب تاريخيّ متَى حسبْنا قُوَّة تأثيره في أدبنا وثقافتنا، وبُعْد صَوْته في مجتمعنا.

لكنَّ غازي القُصَيْبِيّ – وعنه هذا الحديث – أديب كبير وتاريخيّ إذا نَظَرْنا إلى بُعْد أَثَرِه؛ إلى مَسِير شِعْره في النَّاس، ولَسْنا نستطيع السُّكُوت عنْ خصيصته هذه ما دامَتِ السَّيْرورة مِنْ مقاييس نَقْد الشِّعْر في تراثنا، وقِسْ على ذلك محاضراته وفُصُوله النَّثْرِيَّة الَّتي جَمَعَها في غَيْر كِتاب، وكان أَهَمّ ما يمتاز به، في شِعْره ونَثْره، أنَّه كاتِب ومُنَظِّرٌ “حَكَّاء”، استطاع أن يَتَّخِذ مِنْ حياته في الإدارة موضوعًا يُقْبِل عليه مَنْ أراد تطوير أدائه الإداريّ والرُّقِيّ به، لا فَرْقَ، في ذلك، بَيْن وزيرٍ اعتلَى، حديثًا، كُرْسِيّ الوِزارة، أوْ رئيس جامِعة، أوْ وكيل وِزارة، أوْ رئيس دائرة في هذا الدِّيوان أوْ ذاك مِنْ دواوين الحُكُومة، ويَلْقَى كُلٌّ مُرَاده في ذلك الكِتاب، والرَّأْي والمَشُورة عند القُصَيْبِيّ، وكُلُّهُم يَلُوذ به، ويَسْتَظْهِر شيئًا مِنْ وَصاياه، يَسْكُت عنه الوزير والمسؤول، نُزُولًا على حِفْظ المقام، ويَلْهَج به أحباب غازي ومُريدوه، وكثيرٌ مَّا هُمْ!

كان الوزير غازي القُصَيْبِيّ، يَوْمَ لَبِسَ عباءة المسؤول، أستاذَ جامِعةٍ، ثُمَّ كان وزيرًا في وِزارة الشُّبَّان في عَهْد المَلِك خالد – طَيَّبَ الله ثراه – لكنَّه لمْ يَكُنِ الأستاذ الجامِعِيَّ الوحيد بَيْنهُمْ، وكان، في وزارته، يَصِل النَّظَريَّة الَّتي استقاها مِنْ دُرُوس الجامِعة، بما يَضْطَرِب به الشَّارع، وكأنَّه كان يختبر تلك النَّظريَّات، ويُجَرِّبها، ولأنَّه أديب كاتِب وأستاذ جامِعة مُثَقَّف، رَأْيْناه – في سَنَوَات الطَّفْرة – يُلْقِي المحاضرات في الأندية، ويُذِيع الفُصُول والمقالات في الصِّحافة، في شَأْن جديد طَرِيّ، فالوزير ذو السِّتِّ والثَّلاثين سنةً كان يُدِيم التَّفكير في مسائلَ تنهض ببلاده، أَهَمُّها “التَّنْمَيَة”، فحاضَرَ وكَتَبَ، ورُبَّما جادَلَ وناظَرَ زُمَلاءه في مجلس الوزراء، في مسائلها ومشكلاتها، وصَدَرَ، في كُلِّ ذلك، عنْ رُوح وَزِيرٍ ناطَ به وَلِيُّ الأمر تلك الوزارة، ورجا أن يُحْسِن ما فُوِّضَ إليه؛ وأستاذٍ جامِعيٍّ لمْ تَكُنِ الوزارة آخِر عَهْده بالنَّظريَّات والفلسفات والقِرَاءة والتَّثقيف؛ وأديبٍ كاتِبٍ ظَهَرَ على ما أنشَأَهُ رُوحه هو وعَقْله وأسلوبه، لا مَطْبَخ القَرَارات في وزارته وأسلوب مدير مكتبه ومستشاريه، وصارَتْ مقالات غازي تلك الَّتي تَتَّصِل بالوزارة والتَّنمية مُشْبَعةً به، دالَّةً عليه، مَمْزُوجةً بِسِيرته وما تَقَلَّبَ فيه مِنْ أحوال.
لكنَّ ذلك ليس كُلَّ شيء، فما كُلُّ وزير مؤثِّر، وقِسْ على ذلك أستاذ الجامِعة والأديب، وما أكثر الأدباء الَّذين اتَّصلوا بالوزارة – أوْ ما في مَرْتبتها – وما كان لَهُم ذلك الصَّوْت البعيد، على أنَّ حديثي هُنا ليس مُخْتَصًّا بالوزراء ولا الأدباء، وإنَّما أردْتُّه خالِصًا لِرَجُلٍ لَبِثَ، حِينًا طويلًا مِنَ الزَّمان، الأدبُ والمَنْصِبُ أَظْهَرُ صِفاته، ولا رَيْبَ في أنَّ أَحَدَهُما كان خادِمًا للآخَر، وأنَّ كِلَيْهما أَدَّى للوزير والأديب ما لمْ يُتَحْ لوزراء مَرُّوا بِكُرْسِيّ الوزارة، وأدباء ما استطاعوا أن يستجلبوا الانتباه إلَّا شيئًا قليلًا.

سَأَلَ أدباء ومثقَّفون – ورُبَّما وزراء ومسؤولون – عنْ ذلك السِّرّ الكامِن في غازي القُصَيْبِيّ؟ قال أدباء: الوزارة هي الَّتي أَكْسَبَتْه الشُّهْرة والذُّيُوع، ولولاها لكان شاعرًا كغيره مِنَ الشُّعراء! ولا أستبعد أنَّ زُملاء له في الوزارة تَهَامَسُوا: الأدب هو الَّذي جَعَلَ وزيرًا للصِّناعة والكهرباء – أوْ وزيرًا للصِّحَّة، بَعْدَ ذلك – مَذْكُورًا على كُلِّ لسان! على أنَّني لمْ أسمَعْ أَحَدًا قال: بلِ الأدب والوزارة مَعًا – لا فَرْق في التَّرتيب والمُوَالاة – كانا سبيليه إلى المَجْد والشُّهرة والذِّيُوع، فلَمَّا قَضَى الوزير الأديب – ولكُلِّ أَجَلٍ كِتاب – كانَتِ الوزارة قدِ اعْتُلِىَ كُرْسِيُّها، مِنْ بَعْدِه، مَرَّاتٍ، وبَقِيَ الشَّاعر والرِّوائيّ والمُفَكِّر، تَشْهَد طبعات كُتُبه، والمكتبات، والمَعارِض، ومِنَصَّات التَّوَاصُل الاجتماعيّ = على أنَّه كان أديبًا مُنْشِئًا قَبْلَ الوِزارة وفي أثناء الوزارة وبَعْدَها، وكان الأدبُ وكانَتِ الكِتابةُ هُما مِيراث غازي القُصَيْبِيّ، وكان ذلك المِيراث، وهو غزير نَفِيس، هو ما يَبْقَى مِنْه للتَّاريخ!

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. وبعد أن قرأت ماقرأته أ حسين بافقيه اسمح لي أن أقول لك
    أنت عكازة المطر حين تشيخ الغيوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com