الثقافية

وحبيبتي بين الركام ..

من الواقع المؤلم .. إلى الحلم المأمول

مقاربة نقدية في ثنائية اللهفة والحطام

(١) مدخل شعري :

(١) بيروت ..

         يابيروت ..

              يا كحل عينٍ للجميلات ..

              وبسمة للشفق الزاهي ..

                              والليالي النديات ..

              ونهر حب دافق ومؤنس ..

                              مثل الفرات ..

   بيروت يا بيروت ..

             يا أحلى فتاة !!

(٢) قتلوك يابيروت ..

                يازنبقة المدائن ..

                يا حشرجة الروح ..

                   في (موالات) فيروز ..

                                    والصافي ..

                               وملحم بركات !!

(٣) قتلوك يا بيروت ..

                يا حبيبة الشواطئ ..

                             تفاحة البحر ..”

                          ونرجس الرخام(1)

ياطعم الصنوبر ..

  ونكهة التوت المعتق ..

            في شفاه الفاتنات ..

(مقاطع من نص جديد لكاتب هذه السطور ولد ليلة الفاجعة في بيروت، وما زالمفتوحاً على كل الاحتمالات اللاحقة)

#     #     #

(٢) تعريف ..

   … وعبر (خمسة عشر) بيتا، من بحر الرجز، يبحر بنا الشاعر / الدبلوماسي / الدكتور عبد العزيز خوجه، في قصيدة ماتعة / جاذبة / حزينة / مؤلمة عن بيروتوما أصابها مساء الثلاثاء ٢٠٢٠/٨/٤ من انفجار دمر مرفأها وما حوله منفضاءات عمرانية وسكنية، ومنشآت حضارية وتجارية 

القصيدة حملت عنوان : وحبيبتي تحت الركام ، ونشرت في العديد من الصحفالسعودية، واللبنانية، وتناقلته (صوتياً) بعض المنصات الإلكترونية، وأذيع(غنائياً) بصوت الفنانة سمية بعلبكي وألحان الموسيقار طلال باغر .

(٣) النقد والتحليل :

١/٣ وبقراءة فاحصة ، ناقدة، ومقاربة متأنية، تجد نفسككقارئ/ ناقدأمامبكائية شعرية تتمحور في أيقونات ثنائية، يمكن تلمسها بدءً من العنوان(حبيبتيالركام)، وتتنامى عبر النص في جانبين متعالقين واقعي/ مؤلم،وحلمي/ مأمول، لتوحي للقارئ بحجم الكارثة التي أصابت بيروت واقعياً ،وحجم الأثر العاطفي والنفسي الذي عاشه الشاعرالذي كان سفيراً للمملكةفي بيروت خلال فترة طويلة من عمله الدبلوماسي – 

وبإطلالة عامة على القصيدة / النص نجدها عبارة عن مقطعين ، وكل مقطعبقافية مختلفة ، فالمقطع الأول ، قافية (ميمية) وفيه (سبع أبيات) ؟!

ومطلعه: وبحثت عن بيروت .. مابين التوله والركام

والمقطع الثاني ، قافيته (نونية) ، وفيه ثمان أبيات ومطلعه:

أواه يابيروت .. يا أحلى نساء العالمين

وأعتقدنقدياًأن هناك (بيت) مفقود في المقطع الأول / سباعي الأبيات، لأنالمقطع الثاني ثماني الأبيات !؟! ولو وجد هذا البيت لاكتملت القصيدة فيمقطعين متجانسين/ متماثلين في كل منهما.

 ولعل المقطع الأول يمثل الجانب الواقعي / المؤلم حيث نجد (بيروت) التفجير/ الدمار، الركام، الأنات، الغضب، الضياع. والمقطع الثاني يمثل الجانب الحلمي/ المأمول . فـ(بيروت) أحلى نساء العالمين، ليلة مُثلى ، توق، مساء الحالمين،صبابة، ليالي العاشقين، روانة ، هبة الإله، سر الجوى للهائمين، العشق المخبوء/ المفضوح، الحنين/ المتوج باليقين.

وعبر هذين الجانبين/ الثنائية المفصلية في القصيدة ، تظهر الحوارية الشعريةبين الذات المتألمة، والذات المؤملة، وهو حوار أقرب إلى الصراع النفسي الذيخلفته هذه الكارثة (إنفجار المرفأ) والدمار الذي خلفه حضاريا وتجارياوسياسيا واقتصاديًا واجتماعيًا

حيث تبرز العديد من المفردات الشعرية التي تمثل الجانب الذاتي في كلاالمقطعين .

ففي المقطع الأول نجد : التَّولُّه، اللهفة، الغرام، الحلم الذي لا يضام، المودة،الهيام، !! وفي المقطع الثاني نجد: التأوهات ، سهام، حريق، طلسم دفين !!

وهذا يعني مدى الأثر والتأثير على نفسية الشاعر وموقفه من هذه الحادثة التيهزت الحبيبة (بيروت) وجعلتها تحت (الركام) .

٢/٣ وتبعاً لذلك التعالق بين الذات المتألمة ، والذات المؤملة تأتي (بيروت) – التيتمثل مركزية للنص/القصيدة) في صورتها الحقيقية واسمها المجرد (خمسمرات) :

وبحثت عن بيروت ..
بيروت قد سُرقت ..
أواه يا بيروت ..
بيروت يا هبة الإله ..
عودي لنا بيروت ..

بينما تأتي في صورتها الشعرية ، من خلال الضمائر الدالة عليها والمشيرةإليها في (ثماني مرات) تقريباً:

رأيتها غضبانة ..
نظرَتْ ولم تُلقِ السلام ..
قالت أتبحث ..
كان في دنياك ..
كان يسقيك ..
باعوها لأحلام اللئام ..
أحلى نساء العالمين ..
سهامك في النوى ..

وهذا يؤكد التجاذب الضمني بين الشاعر/ الإنسان، وحبيبته بيروت/ المكان، ومانشأ بينهما من تعالقات حياتية واستجمالية، حد الذوبان !!

ثم تأتي في صورتها الذهنية/ الحدسية عند الشاعر في (ثنتي عشرة مرة) منخلال ضمائر المتكلم:

وبحثت عن بيروت ..
وسمعت أنات ..
ورأيتها غضبانة ..
أتبحث عن ..
دنياك حلماً ..
يسقيك المودة ..
يا ليلتي المثلى ..
وتوقي في مساء الحالمين ..
منها تعلمت ..
وفككت طلسمها ..
عشقي ..
 حُرقنا ..

وفي ذلك التكرار إشارات وتلميحات ضمنية إلى ذات الشاعر وما تشكله(بيروت) في ذهنيته الشاعرة ، وتفاعلاته النفسية حيالها واقعاً جميلاً كان .. أوما أصبحت فيه من دمار وحطام وركام !!

٣/٣ ومن الملامح الجمالية في هذه القصيدةعدا الثنائيات التي حللناها آنفاًنقف نقدياً عند جمالية المطلع والخاتمة فبالمطلع يقول :

وبحثت عن بيروت مابين التوله والركام 

وفي الخاتمة يقول :

عودي لنا بيروت إنا قد حرقنا بالحنين

هنا تتشكل جمالية (المفتتح) ، (وبحثت عن..) كجملة تنتمي إلى الفعل الماضويالمرتبط بتاء المتكلم وفي هذا حسن لفظ يؤدي إلى المعنى المراد، وفيه سلاسةجرس خالٍ من التعقيد وهذه من سمات الجماليات المطلعية.

كما تتشكل جمالية (الختام) القفلة:  (عودي لنا) كجملة نداء تستحضر (نا/ الجماعة) وفي هذا الشطر البيت الأخير خلاصة وحكمة وقفلة تنهي النصوتحكمه وهذه من السمات الجمالية للخواتيم في القصائد والنصوص العربية .

إن التفرد في المطلع /البحث عنوالجماعية في الختام/ عودي لنا .. تعطيالقارئ دلالات وإيحاءات بما تشكله بيروت في الذهنيات الفردية والجمعية منجمال وحضارة تعرضت لهذه الفاجعة وأحالتها إلى ركام وحطام، وضياع،تجعلنا نؤكد مع الشاعر في البيت السابع من المقطع الأول والذي أعتبرهنقدياًهو بيت القصيد: “بيروت قد سُرقت .. وباعوها لأحلام اللئام

٤/٣ ومن الملامح الجمالية في هذه القصيدة، ذلك التوافق في النهايات البيتية/ القوافي . فالمقطع الأول قافيته حرف (الميم/ الركام، الحطام، الغرام …)،والمقطع الثاني قافيته حرف (النون/ العالمين، الحالمين، العاشقين) .

وإذا راجعنا الحروف (الألفبائية) وجدنا حرفي (الميم والنون/ م.ن) متواليين فيالترتيب الألفبائي. وكذلك نجدهما متواليين بنفس الأسلوب في الحروف الأبجديةوالترتيب الأبجدي (كلمن/ ك.ل.م.ن) . ولذلك جاء الإبداع الجمالي على لسانالشاعر/ بوعي منه أو دون وعي !!

عبر هاتين القافيتين اللتين تؤطران النص/ القصيدة، وتؤكدان أن هذا التلازمالحرفي بين الميم والنون يشي بدلالة التلازم الحسي والشعري بين الذات المتألمةوالذات المؤملة، بين الواقع المؤلم والحلم المأمول.

#     #     #

(٤) ختام:

وهكذا تداخلنانقدياًمع نص/ قصيدة كل مافيها إبداع وجمال منذ موضوعها، وشعريتها، وقوافيها، وأسلوبها. قصيدة ذات قاموس معجمي يتراوح بينالواقع.. والماضي، بين الذات والمكان، بين الألم والأمل، بين الكارثة والحلمالمابعدي.

لقد جاءت هذه المقاربة/ القراءة/ المداخلة مركزة على النص (فقط) الذي جعلناهفي بؤرة الاهتمام النقدي فشرَّحناه، وحللناه (وفتقناه) بعيداً عن (الشخص) قائله/ مؤلفه !! 

وبعض النقادللأسفيعكسون المسألة فيكون المؤلف القائل (الشخص) هوالمركزية النقدية وتبدأ المقاربة في ظل هذا الكائن الماثل في بؤرة الاهتمام ويترك(النص) بعيداً.

وأعتقديقينًاأنني قاربت القصيدة/ النص بعيداً عن قائلها فـ(النص) هوالمقصود، ومنه نستخرج الجمال والإبداع وندلل عليه إحصائياً وأسلوبياً.

والله من وراء القصد.

من مساء السبت ٣/١/١٤٤٢هـ

إلى مساء الإثنين ٥/١/١٤٤٢هـ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* قصيدة للدكتور عبد العزيز خوجة .

**شاعر وناقدعضو الجمعية العمومية بنادي جدة الأدبي .

(1) من نص محمود درويش، بيروت. انظر الشبكة العنكبوتية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com