المقالات

الضحك في صيغة الجمع!

الاستغراق في الضحك خروج مؤقت من الجسد والتعالي عليه عبر هفهفات الروح، أو الرفرفة حوله قريبًا منه، لحظة من لحظات الدخول المؤقت في الصوت المطلق الذي يتم تشييده بدعم من الأصدقاء الأكثر ظرفا وأريحيّة، وهو في الوقت نفسه خروج من عالم المادة إلى عالم الروح في صيغتها الجماعية لا الفردية، ومن هنا تحدث المتعة ويتم إصلاح الكثير من الخلافات الشخصية بين هؤلاء الأصدقاء والتنازل عن كامل الحقوق، بل وإشاعة التسامح بينهم، إلى أن يتدخّل العقل في لحظة حاسمة عبر أحدهم فيفسد عليهم هذه اللحظة الروحية حين يعيدهم إلى المحاسبة عبر الأعراف المحكومة بمنطق عقلي.
والفرق بين هذا النوع وما يحدث للندماء أنّ هذا الأخير يتعاطى فيه الندماء الضحك عبر فقدان عقلي جماعي يدخلهم في غيبوبة من اللاوعي بفعل خارجي غير طبيعي، وهذا هو الفرق تماما بين الضحك الطبيعي والضحك الصناعي المدعوم بمؤثّرات خارجية يكون فيها الضحك دخيلا على المشهد، بخلاف الضحك الأصيل الذي لا تستدعيه سوى اللحظة الغارقة في الظرف والبهجة.
هذا النوع من الضحك شكلٌ من أشكال الفرح الذي لا يزور إلا لماما و في أوقات لا يمكن استدعاءها أو حتى إعادتها مهما تكلّفنا لها الأسباب وجلبنا لها الطرائف والنكت؛ إنّه لحظة نادرة يتم فيها الاستحمام داخل نهر الخلود، أو هو بعض مما يطرطشه هذا النهر من وراء الغيب فيمنح الجلساء لحظة الرفرفة خارج الجسد، داخل الصوت الجماعي في صيغة المفرد!
في هذا السياق يقول ميلان كونديرا عن الضحك باعتباره متعة عظيمة وعارمة ، بل كلّ المتعة : “أن تضحك معناه أن تعيش بعمق” و “مما لا شك فيه أن الضحك أسمى من المزاح والسخرية والسخافة”، “إنّه تعبير الكائن عن فرحة وجوده” و “إنّ المنفجر بهذا الضحك الانتشائي يتجرّد من كلّ ذكرى ومن كلّ رغبة، ويكون ضحكه راسخًا في تلك اللحظة، متركّزا حولها”، وهذا هو معنى الاستغراق، أي الغرق في اللحظة الضاحكة التي نادرًا ما تعبر وينبغي أن تكون كذلك: لحظة نادرة حتى لا تفقد معناها الروحي العميق!
ذلكم هو الفرق بين الغرق في الضحك بشرط أن تكون حالة استثنائية، و الاستغراق في ضحك طائش لا يمثّل ولا يتمثّل صيغة التطهير الروحي، وإنما هو شكل عبثي من أشكال السخرية والسخافة التي ترصد الآخرين على قارعة الطريق، وترمي بالضحك في شغب كما لو كانت ترمي بشرر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com