المقالات

“ضع قناعك أولًا”

قال صاحبي: لن أطيل عليك التساؤلات، وسوف أختصرها بسؤال واحد؛ ما النصيحة التي ترى أنها تستحق أن يعرفها، ويعمل بها الآخرون؟
قبل عدة أيام وأثناء قدومي من رحلة سفر، ركبت مع سائق سيارة أجرة، وربما أنه توسَّم بي الخير، فبدأ يقص عليّ حكايته، منذ طلاقه زوجته، ثم تربيته لأبنائه، وتعليمهم، حتى تخرجوا في الجامعة، وبدأ كل منهم يخطط لمستقبله، عندها أحسست أني قمتُ بواجبي تجاه أبنائي الأربعة – ولدان وبنتان- ففاتحتهم أني أرغب بقضاء ما تبقى لي من العمر مع زوجة تعوضني ما مضى من وحدتي، وتعبي.
صدمت ليس من مواقفهم الرافضة، بل من سخريتهم من هذا الكهل الراغب في الزواج، وكانت إجابتي هي أني لم أرغب أن أدخل عليكم زوجة أب، ربما تُسيء معاملتهم، فكنت لكم الأب والأم معًا، فكانت الإجابة الأشد صدمة من وقع الحسام المهند هي، هذا كان قرارك وعليك أن تتحمل نتيجته!!، لم نطلب منك أن تضحي لأجلنا، لم نطلب منك أن تحرم نفسك من السهر والسفر والبقاء بجانبنا!!.
قد يُخيل للبعض أن هذا السائق ساق هذه القصة من أجل أن أنفحه بضعة ريالات زيادة عن أجرته، ولكن الصدمة أنه رفض أن يأخذ ريالًا واحدًا يزيد على ما اتفقنا عليه، وهذا ما جعله يحكي لي النصف الآخر من قصته، فهو موظف، وقريب من التقاعد، وحوَّل سيارته للأجرة، من أجل أن ينفق ما يرد منها في مصاريفه الخاصة، دون أن يمس راتبه الشهري الذي جعله من أجل رفاه وسعادة أبنائه.
تكررت على مسامعي وربما على مسامعكم مثل هذه الحكاية وغيرها، وكنت أجيب على ما أسمعه بعبارة “ضع قناعك أولًا” هذه العبارة التي استوقفتني كثيرًا في سفري، وكنت أسأل نفسي، وأنا برفقة والدتي- رحمها الله- أو أولادي، ماذا لو حدث ما يتطلب ارتداء الأقنعة التي ستقع في حالة الطوارئ، هل سأستجيب للتعليمات، أم سأتبع ما يُمليه علي قلبي وعقلي، وكانت الإجابة بلا تردد أو تفكير أضع لهم قناعهم أولًا.
هذه القناعة تبددت بعد رحيل والدتي -رحمها الله- ومعايشتي لكثير من قصص النكران والجحود التي يتعرض لها الولدان أو أحدهما، من بعض الأبناء، حتى وإن عُدت في حكم النادر، فأصبحت أحدث نفسي بضرورة مراجعة الكثير من العواطف والسلوكيات، وأمنحها لنفسي، فأنا أحق وأولى بها، وبحكم ما أودعه الله في الوالد من رحمة وشفقة، فلن ينأى بنفسه عنهم، ولكن عليك أيها الأب ألا تقدمهم على نفسك، فضع قناعك أولًا.
الأنانية صفة ذميمة، ومنفرة من الإنسان، لكن عليك ألا تنسَ نصيبك من الدنيا، انتبه لنفسك، وأعطها حقها، وأعطِ الآخرين حقوقهم، التفت لعقلك وروحك، اعتن بصحتك، افتخر بإنجازاتك، حافظ على مشاعرك، لا تخسر أخاك مهما كان السبب، تمسك بأصدقائك القدامى، فهم الأكثر وفاءً، راقب هرمونات سعادتك، ولا تدعها تنقص عن المستوى الذي يجعلك سعيدًا، تعلم كيف ومتى تقول لا؟ امنح الآخرين فالعطاء سعادة لا يعرفها إلا الباذلون، لكن بعد أن تضع قناعك أولًا.
كثير من مواقف الحياة تحتاج أن تتعامل معها بالأنانية الإيجابية.. لذا ضع قناعك أولًا، هذه ليست دعوة للأنانية، وإنما لإكرام الذات، وعدم انتظاره من الآخرين، فعندما تبذل فأنت يجب ألا تنتظر المقابل، وإلا صرت، بائعًا لا باذلًا.

قلت لصاحبي:
حتى لا يقصر الآخرون في حقك.. وتقتلك الحسرة.. ضع قناعك أولًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى