منتدى القصة

السقوط

قصة قصيرة

…. يظل يصعد حتى أعلى نقطة .. ينظر إلى الأرض .. يشعر بالدوار .. يحاول أن يتماسك .. يميل رأسه للأمام و …. يهوى ..
تمر الثوانى ثقيلة .. يشعر بالهواء البارد يشق عظامه كالسكين قيل أن يرتطم جسده بقوة بالأرض ..
يستيقظ فى فزع وهو يتصبب عرقاً .. يسحب كتاباً من على الكوميدينو ويظل يقرأ حتى يغالبه النوم من جديد ..
كم حاول أن يهزم هذا الخوف لكنه لم يستطع ، كانت تسرى فى جسمه قشعريرة رهيبة عندما يرى عاملاً يؤدى مهمة فى مكان شاهق ، أو أولئك الذى لا يحلو لهم التقاط الصور إلا من على قمم الجبال أو ناطحات السحاب ..
كان فى أواخر المرحلة الابتدائية عندما طلب منه بعض رفاقه أن يصعد معهم الكباس أو الفنطاس ..
كان الصعود ألى قمة الكباس هو أحد الطقوس الهامة والرئيسية التى يحرص الصبية على فعلها فى الأعياد ، كانوا يدفعون النقود لكى يصعدوا ، وكثيراً ما كان يتساءل .. كيف لهم يبددون ” العيدية” هكذا بكل بساطة فى مقابل تلك الدقائق من الرعب والفزع ؟! .. انه الغباء بعينه ..
ظل لدقائق ينظر فى رعب إلى المبنى الشاهق وقد تسمرت قدماه قبل أن يجرجره أحدهم ويأخذه إلى الداخل ..
حاول أن يصعد .. قدماه لا تستطيعان حمله .. الصيحات تتعالى تحثه على الصعود ، كان عليه أن يتماسك وسط هذا الكم المتداخل من الأجسام النحيلة .. ينقل قدماً وراء الأخرى فى صعوبة بالغة .. ينظر تحت قدميه ليرى هذا الظلام المخيف .. يتقيأ فى عنف ويسقط مغشياً عليه ..
لم يعد صغيراً الآن ، لكن الخوف لايزال يتمدد داخله .. يسيطر عليه تماماً ويطارده بشراسه حتى فى نومه ..
التحق بكلية الهندسة وكان حلم حياته أن يدرس الهندسة المدنية، لكن خوفه من الأماكن المرتفعه جعله يغير رأيه مجبراً ليلتحق بقسم الكيمياء
– قسم كيميا مفيش فيه مرتفعات .. الشغل كله فى المعامل اما تحت الأرض أو فوق الأرض
زار أكثر من طبيب، والنتيجة دائماً كانت واحدة ..
– صدقنى علاجك فى ايدك .. لازم تتغلب على خوفك
– الكلام كويس يا دكتور بس المهم الفعل .. صدقنى لو قلتلك مش قادر
– لازم تساعدنى علشان أنا كمان أقدر أساعدك
لم يعد يقتنع بكلام الأطباء ، ونصحه أحد الأصدقاء أن يذهب إلى الشيخ منصور ..
– راجل سره باتع وهيجيب م الآخر
– بس أنا مبصدقش الناس دول .. دا اسمه دجل وشعوذة وبعدين حرام
– الحرام انك تفضل كده .. يا عم جرب بس .. صدقنى مش هتندم
تردد كثيراً قبل أن يذهب للشيخ منصور ، لكنه فى النهاية قرر أن يجرب ..
صالة واسعة امتلأت عن آخرها بمختلف أنواع البشر ، اختلطت الأصوات كأزيز النحل ، وتعالت الصرخات والتأوهات والتى كان يقطعها بين الحين والآخر ذلك الصوت الجهورى لامرأة ضخمة الجثة حادة الملامح ، تتعمد أن ترفع ذرايعها بين الحين والآخر ليظهر صفين من الغوايش ثقيلة الوزن .. كانت تقف أمام حجرة صغيرة ، يبدو أنها حجرة الكشف ، كان عليه أن ينتظر دوره .. سبع وثلاثون رأساً سيدخلون قبله .. الأنفاس متزاحمة وبالكاد تستطيع أن تحصل على جرعة من الأكسجين وسط كل هذه الأنوف المتراصة ..
كافح حتى وصل إلى الباب .. ملأ صدره بالهواء النقى .. ووقف مع نفسه للحظات ..
– ايه اللى انا بعمله ده .. أنا إيه اللى حصللى فى عقلى .. إزاى وصلت لكده
ظل يضرب كفاً على كف غير مصدق أنه أتى بقدميه إلى هذا المكان الذى يمتلىء بكل هذا الوباء والنفاق والدجل ..
انطلق بسيارته و بدأ يفكر فى محطات حياته المختلفة .. تذكرأسرته وأولاده وكيف أنه حرمهم من الذهاب إلى الملاهى خوفاً من أن يقع مغشياً عليه عندما يشاهد أحد الألعاب الهوائية وهى ترتفع فى السماء وسط نوبات من البكاء والصراخ ، كان لا يستطيع أن يزور أصدقاءه وأقاربه بحجة أنهم يسكنون فى الأدوار العليا ..
لم يشعر بالضعف وقلة الحيلة مثلما يشعر بهما الآن ..صداع يكاد يشق رأسه لنصفين .. يضغط بقوة على الوقود.. تنطلق السيارة فى جنون .. يفقد السيطرة عليها تماماً و…. تهوى من أعلى الكوبرى وسط عشرات الصيحات والصرخات ، المدهش أنها المرة الأولى التى لم يشعر فيها بالخوف .. من السقوط !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com