المقالات

الباحة والموروث الشعري

▪️كان الشعر متسيدًا في الحقبة الماضية إذ كان بمثابة سجلًا تُحفظ من خلاله الوقائع والأحداث، ومدونة حافلة بالمساجلات والتفاعلات والتعاطي الاجتماعي والحياتي، في وقت كان هو الأوحد لرصد ونقل مجريات الأحداث لتصلنا مشافهةً جيلًا بعد جيل .. كما اكتسب الشعر أهمية خاصة في كونه صنف أدبي يحمل معانٍ هادفة وموجهة؛ كلغة خطاب أو إخبار للوفود ومن يفد إليهم؛ (بدعًا وردًا)، وكأسلوب دبلوماسي للمصالحة وفض النزاعات، وكمدح وثناء لمن هم أهل له، أو عتاب وتأنيب وتوبيخ أو وذم لمن يبدر منهم ذنب أو خطأ يخل بالقيم والتقاليد، وكتوصيف ومفاخرة ببطولات أو مآثر شخصية أو قومية .. كما كان سيفًا مسلطًا وحربًا إعلامية شعواء ضد الخصوم لكسر شوكتهم ودحر معنوياتهم .. وفيما هو شواظ من نار يشعل أوار الحروب، فإنه في المقابل برد وسلام تطرب له القلوب، وتسر له النفوس فتنتشي رقصًا بأهازيج فرح بإيقاعات فلكلورية شعبية تُقام في حفلات الزواج والأعياد والمناسبات السعيدة، وبما أن له أغراضه ذات الصفة الجدية؛ فإنه أيضًا يستعمل كأداة استمالة ووصف وغزل عفيف، وله كذلك رسالة نبيلة تتمثل في النصح والتوجيه متوجة بحكم وقواعد تشرع لقوانين التعايش السلمي كمواثيق أخلاقية ونظم اجتماعية متبعة، تصب في انتظام عقد القبيلة ورضوخها لتلك الأعراف السائدة في ظل حكم الغاب آنذاك!!
▪️ ولأن الشعر لغة رمزية يحمل في طياته العديد من الأساليب البلاغية التي تمنحه القوة والعمق والإيجاز؛ كالتورية للتمويه وتغليف المعاني كشفرة شعرية باعتبار الغموض مثار الفضول والاهتمام، وكذلك الجناس الذي يُعبر عنه بـ(الشقر) في العرضة الجنوبية، وهو ما يمنح القصيدة موسيقى تشد الانتباه وتلفت الأنظار للمغزى العميق من ورائها، وبما يكسب الشعر حيوية متجددة لتزامنه مع الأحداث، وتماشيه مع لغة العصر بعناصره وتقنياته!!
▪️ولأن الشعر وعاء ثقافي يحمل في طياته رسالةً ذات طابع قيمي ديني أو أخلاقي أو اجتماعي أو وطني؛ ذات تاثير مباشر في شحذ الهمم وترسيخ القيم وتأطير المفاهيم، فقد برز له فوارس تتفاوت درجات صيتهم بحسب تمكنهم الشعري وثرائهم المعرفي والأدبي؛ كشخصيات لهم جمهورهم ومحبوهم الذين يتغنون بشعرهم ويتذوقون نتاجهم .. وكما أن الشعر أدب ثري بالمعاني الإنسانية الفاضلة، فإن الشاعر أيضًا يشعر بمسؤوليته المجتمعية كمتحدث لبق بنظم متسق، وموسيقى شاعرية؛ يتجلى من خلاله بلاغته وإبداعاته، ليس فقط في الاتجاهات التقليدية؛ كلغة خطاب اعتيادية أو في المساجلات الشعرية بل كرصد أدبي يُساير الأحداث أو يتفاعل مع المناسبات العامة أو الخاصة، أو لتجسيد معاناة جمعية أو فردية أو لإبداء رأي ومشورة أو لتجسيده لوحةً جمالية تُحاكي الطبيعة أو يتمازج مع المعلوماتية أو يحلق في فضاء المعرفة، كل ذلك أعطى قيمة مضاعفة للشعر كواجهة إنسانية حضارية، وللشاعر كشخصية اعتبارية ذات فاعلية مجتمعية يتمتع باللباقة وحسن التذوق الفني متضمنًا ذلك بالحكمة والرصانة في المعالجات المختلفة!!

ولأن الشعر حاضر في ذواتنا كمتذوقين أو معجبين، فإن القيمة تتعاظم لدى شريحة كبيرة من المجتمع بحسب اهتماماتهم وتوجهاتهم لتوشيح مقالاتهم أو مدوناتهم بالشعر كاستشهاد أو تقنين أو لإضفاء جمالية أو لتوظيف المنظوم كإنابة عمَّا يجيش في خواطرهم أو يُطابق ذات الموقف!!

ولأن جلَّ الموروث الشعبي لم يدون بل بقي في أذهان الرواة مما يجعله عُرضة للفقد والتناثر مع أن التقنيات وفرت طرقًا متعددة لنقله للذاكرة الإلكترونية .. تظل المهمة معلقة في انتظار من يقوم بالدور، وإن كان ذلك يتطلب شغفًا وتمكنًا أدبيًا وعلميًا وأسلوبًا جاذبًا!!

وفيما هو كذلك فقد برز الدكتور حسن الدوسي كأحد المهتمين برصد الموروث الشعري من خلال إجراء لقاءات لشعراء ورواة يجيدون الحفظ والنقل للشعر الشعبي في منطقة الباحة وغيرها من المناطق المجاورة التي تتمتع بذات الصبغة الشعرية، وهو بذلك يستحق الشكر والتقدير لقاء ما يبذل من جهود مضنية في تتبع الأثر والتنقل، وتحمل مشاق السفر والترحال من مكان لآخر!!
ولعل الدافع لكتابة هذا المقال هو اطلاعي على إحدى اللقاءات المثرية مع الشاعر والراوي المبدع (علي بن صالح (ابن عصيدان) السعدي الزهراني) الذي يُعد أحد أعيان قبيلة أولاد سعدي؛ إذ استطرد في رحلة ممتعة تنقل من خلالها بين محطات عدة، أورد طرفًا من سيرة وأشعار رجالٍ كانوا طودًا شامخًا في فضاء الشعر الشعبي، بل وكانوا أصحاب شأن ومكانة مرموقة في قبيلة أولاد سعدي؛ إحدى أفرع قبائل بني سليم بزهران ومنهم:
سعيد بن عطية المقرى، وأحمد بن عطية الحرفي، ومحمد المدسوس، وعطية بن موسى بن عصيدان، وعبدالله الشافق، وعبدالله بن حسين، وأحمد بن هياس البدوي، ومن الجيل الثاني: عطية بن يحيى بن شريفة، وعلي بن عبدالله الشافق، والعقيد سعيد بن أحمد الحرفي (أحد أعيان قبيلة أولاد سعدي)، ومن المعاصرين الجدد: علي بن سعيد المقرى وحسن بن وجران وأحمد بن عطية بن أحمد الحرفي وفلاح بن آدم بن صالح وغيرهم كثر، من شعراء القبيلة، ومما يجدر ذكره أن الشعر والمكانة في هذه الأسر ظل متوارثًا في أبنائهم من بعدهم، ليحظوا بمزيد من التقدير والاحترام كأعيان وشعار لهم مكانتهم المرموقة!

▪️وقفة تأمل:
الشعراء سفراء الحكمة، يستشهد بقولهم، يحفظ أثرهم، يتناقل نظمهم، فليستشعروا رسالتهم كرسل سلام ودين وخلق ووئام، وكفنانين يصيغون لوحةً فنية بسبك بليغ وحبك ممتنع جميل!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى