الوطن ليس جغرافيا تُرسم على الخريطة، ولا مجرد أرضٍ نعيش فوقها. الوطن هو المعنى الذي يمنح للحياة طعمها، وللتضحيات قيمتها، وللأحلام جناحها. وحب الوطن ليس عاطفة عابرة، بل رسالة عظيمة تجعل الإنسان يتجاوز ذاته ليعيش لهدف أكبر من نفسه.
تساءلتُ كثيرًا حول الخالدين العظماء: ما هو سرّهم الخفي الذي صنعهم؟
الفلاسفة والعلماء اختلفوا حول سرّ القيادة، لكنهم اتفقوا على أن هناك خيطًا خفيًا يربط العظمة بالمعنى. وكباحثة وأكاديمية كان لا بد أن أرى رأي العلم في تفسير ذلك، ومن أكثر ما أقنعني:
نظرية القائد العظيم (Great Man Theory): تقول إن التاريخ يصنعه رجال استثنائيون يولدون بصفات غير عادية.
نظرية السمات (Trait Theory): ترى أن القيادة تقوم على خصائص مثل الذكاء، الشجاعة، النزاهة، الكاريزما.
نظرية المعنى في الحياة (Meaning in Life Theory): تضيف بعدًا أعمق؛ إذ تؤكد أن وجود رسالة ومعنى يتجاوز الذات هو ما يحوّل السمات إلى قوة قادرة على الإلهام والخلود.
وبين هذه النظريات يبرز الرابط الأجمل: أن القائد الحق لا يولد فقط بسمات، ولا يصنعه الظرف وحده، بل يكتمل حين يجد رسالة يعيش من أجلها، ويكون الوطن في قلب هذه الرسالة.
إذا أخذنا السمات وحدها، فالذكاء والشجاعة قد يصنعان فردًا لامعًا. وإذا أخذنا نظرية القائد العظيم وحدها، فسنقول إن القادة يولدون ولا يُصنعون. لكن الحقيقة أن هذه العناصر تبقى ناقصة ما لم تدخلها روح الرسالة.
المعادلة واضحة:
سمات شخصية +ظروف مناسبة + رسالة عميقة متصلة بالانتماء والوطن والأصالة.
إن الحب العميق للوطن هو ما يحوّل الذكاء إلى مشروع إصلاح، والشجاعة إلى تضحية، والكاريزما إلى ملحمة وطنية.
وفي ضوء هذه المعادلة، يصبح غازي القصيبي المثال الأوضح لتجسيد ذلك.
ما ميّزه حقًا أنه لم يرَ نفسه شاعرًا أو وزيرًا فقط، بل إنسانًا يعيش من أجل رسالة: أن يجعل حب الوطن بوصلة حياته. يعيش من أجله، ويكتب له، ويتخذ قراراته على أساسه. كان يرى في الوطن الأم والملجأ والمصير.
وقد لخّص ذلك في إحدى قصائده قبل وفاته بفترة قصيرة:
> و يا بلاداً نذرت العمر زهرتَهُ
لعزّها!… دُمتِ!… إني حان إبحاري
تركتُ بين رمال البيد أغنيتي
وعند شاطئكِ المسحورِ… أسماري
إن ساءلوكِ فقولي: لم أبعْ قلمي
ولم أدنّس بسوق الزيف أفكاري
وإن مضيتُ فقولي: لم يكن بَطَلاً
وكان طفلي… ومحبوبي… وقيثاري
إن حب الوطن ليس مجرد عاطفة نُختبر بها في يوم وطني، بل رسالة كبرى تصنع الخلود. وها هو غازي القصيبي يثبت أن من يجعل الوطن غايته ووسيلته، يعيش قائدًا مُلهِمًا، ويظل أثره شاهدًا على ذلك.
أقتباس:
> وعدتُ إليك.. ألقيتُ بمرساتي على الرمل
غسلتُ الوجه بالطل
كأنكِ عندها ناديتني
وهمستِ في أذني: “رجعتَ إليّ يا طفلي؟”
أجل، أماه.. عدتُ إليك
طفلًا دائم الحزن،
تغرّب في بلاد الله
لم يعثر على وكره،
وعاد اليوم يبحث فيكِ عن عمره. ( قصيدة ياصحراء، غازي القصيبي)


