يبدو أن الشعر في زماننا فقد صوته، أو ربما غرق في ضجيج المهرجانات التي تخلط بين القصيدة والفقرة الإعلانية! قديماً، كان الشاعر يُنشد فتُصغي القبيلة، أما اليوم فالشاعر يُلقي والناس تبحث عن “زرّ التخطي”!
منذ زمن بعيد، اعتزل لبيد بن ربيعة الشعر بعد الإسلام وقال: “أبدلني الله بالشعر سورة البقرة وآل عمران.” يا له من اعتزال أنيق، فيه قناعة ووعي وتحول حقيقي. أما شعراؤنا المعاصرون فاعتزلوا بطريقة مختلفة: بعضهم ما زال يكتب، لكن لا أحد يسمع له… وهذه أشد أنواع الاعتزال قسوة. نازك الملائكة صمتت لأن الشعر انحرف عن مساره، وأبو ماضي توقف لأن الناس صارت تسمع النشرة الجوية أكثر من القصيدة، وجويدة أعلن أن الواقع لا يُلهم الشعر بل يُحزنه. أما الآن، فالكثير من الشعراء لا يعتزلون رغم أن الشعر هو الذي اعتزلهم!
تذهب إلى “أمسيات شعرية” فتجد القاعة مليئة بالتصفيق قبل أن تبدأ القصيدة، والمذيع يمدح قبل أن يسمع، والشاعر يقرأ قبل أن يشعر. الكل يمثل على الكل، والقصيدة آخر من يعلم أنها في مأتمها الأخير.
بعض الشعراء اليوم لا يكتبون شعرًا، بل ينتجون محتوى. كل بيت له هاشتاق، وكل استعارة لها راعٍ رسمي، وكل قافية مدفوعة مقدمًا. حتى الكلمات أصبحت تسويقًا بالمؤثرين! هكذا تغيّر الزمن: الشعر القديم يهزّ المشاعر، أما الحديث فيهزّ الميكروفون.
ربما كان الشاعر الذي صمت أصدقهم جميعًا… لأنه أدرك أن القصيدة الحقيقية لا تحتاج جمهورًا، بل ضميرًا. وربما يكون آخر من أعلن اعتزاله الشعر هو شاعر الجنوب الدكتور عبدالواحد الزهراني، أو كما يحب جمهوره تسميته بـ”متنبي الشعر الجنوبي”. الزهراني برر قراره بعدم رغبته في الاستمرار في هذا المجال بعد سنوات طويلة من العطاء، مشيرًا إلى أنه استمر في الشعر خلال السنوات الأخيرة إرضاءً لوالده فقط، وأنه لم يعد يجد في الساحة ما يستحق المتابعة. ويبقى السؤال: هل سيتمكن “أبو متعب” من تحمل الفقدان عن ساحته المفضلة وملعبه الشعري، الذي طالما أطرب محبيه عبر عقود من الزمن؟ الشك يساورني في هذا الأمر.





