عند قراءة كلمة “فجوة”، يتبادر إلى الذهن مباشرة صورة الهوة أو الفراغ في الجدار، أو أي شكل ذهني يعبّر عن غياب أو فقدان شيء ما. الفجوة المقصودة هنا ليست مجرد خلل مادي، بل هي تلك الصعوبة الجوهرية التي يواجهها طلاب المرحلة الابتدائية أثناء عملية الفهم القرائي. فعلى الرغم من تمكن الطالب من قراءة الجملة بشكل سليم، وظهور علامات الثقة والارتياح على وجهه، سرعان ما تتبدد هذه الثقة عندما يُطرح عليه سؤال حول معنى ما قرأ أو مقصد الكاتب من النص. في هذه اللحظة، تتحول ابتسامته إلى ملامح حيرة وتشتت، وكأن فهم المقروء ليس ضرورة طالما أنه يستطيع نطق الكلمات بشكل صحيح، وهو اعتقاد شائع لكنه خاطئ. إن السؤال حول معنى النص لا يهدف إلى إرباك الطالب، بل إلى التحقق من مدى فهمه الحقيقي لما قرأ للتو، وهو ما يُبرز أهمية الفهم القرائي كمهارة أساسية تتجاوز مجرد النطق السليم للكلمات.
تُعد فجوة فهم المقروء من أبرز التحديات التي يواجهها طلاب المرحلة الابتدائية خلال عملية القراءة، فهي ليست مجرد مشكلة تعليمية عابرة، بل تجسّد عقبة جوهرية تعيق تقدم الطالب في بناء فهم حقيقي للنصوص. وعلى الرغم من أن الطالب قد يجيد قراءة الجمل بوضوح، إلا أن ما يلبث أن يواجه صعوبة في الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بمضمون النص أو مقصد الكاتب، مما يكشف عن قصور في استيعاب المعاني والدلالات العميقة. هذه الفجوة تظهر من خلال سلوكيات تعليمية واضحة؛ فبعض الطلاب يعتمدون على الحفظ الآلي للنصوص دون إدراك لمعانيها، فيضعف بذلك تفاعلهم المنطقي والتحليلي مع المضمون، وتقل قدرتهم على الربط بين المعلومات الجديدة وتجاربهم الشخصية.
التحصيل الأكاديمي للطلاب مرتبط ارتباطا وثيقا بهذه الفجوة إذ إن استمرار هذه الفجوة ينعكس سلبًا على نتائج التحصيل، فلا تقتصر آثار الفهم القرائي المحدود على مادة اللغة العربية فقط، بل تمتد لتشمل مختلف المقررات الدراسية، مما يؤدي إلى تدنّي الأداء في الاختبارات وتراجع الدافعية الذاتية للقراءة والمطالعة. ومع تكرار الإخفاقات، يزداد شعور الطلاب بالإحباط وفقدان الثقة بالنفس، وقد يصل الأمر لدى البعض إلى التفكير في ترك الدراسة، وذلك بسبب عدم امتلاك أدوات الفهم والاستيعاب الضرورية لمواكبة متطلبات المناهج الدراسية.
وفي إطار الجهود الوطنية لمعالجة هذه الفجوة، ظهرت اختبارات “نافس” كخطوة تشخيصية فعّالة، حيث أُطلقت في المملكة العربية السعودية سنة 2023 لتقييم مستوى الفهم القرائي لدى طلاب الصف الثالث والسادس الابتدائي والثالث المتوسط. وتهدف هذه الاختبارات، التي تنظمها هيئة تقويم التعليم والتدريب، إلى رصد مواطن الضعف وتطوير التعليم العام، بما يحقق مستهدفات رؤية المملكة 2030 وبرنامج تنمية القدرات البشرية. هكذا تسهم اختبارات “نافس” في تعزيز التنافس الإيجابي بين المدارس وتحفيز الطلاب نحو التميز العلمي، ما يدعم بناء مجتمع معرفي قادر على مواكبة تحديات المستقبل.
ومن هنا، يتضح أن معالجة فجوة الفهم القرائي تتطلب تكامل جهود المدرسة والأسرة والمجتمع لتوفير بيئة تعليمية محفزة تعتمد على استراتيجيات تدريسية حديثة تركز على تنمية مهارات التفكير العليا والفهم العميق للنصوص. كما أن تعزيز حب القراءة لدى الطلاب وتدريبهم المستمر على التحليل والاستيعاب يشكلان أساسًا لصقل شخصياتهم العلمية، وتمكينهم من التعلم الذاتي والمشاركة الفاعلة في بناء مستقبل وطنهم. بهذا النهج الشامل، يمكن تجاوز العقبات القرائية وتحقيق أهداف التنمية الوطنية في بناء جيل واعٍ ومتمكن.
أميرة بنت ناصر الموسى
0






