حين يخطّ القلم الكلمات بلا روح، لا يكون العطب في سوء الحبر ولا في تناسق الكلمات، بل فيمن نضب داخله.
فهناك كتابة تُشبه الضجيج: عالية، منتشرة، لكنها خاوية. كتابة وُلدت لتُرضي، لتُلمع، لتتقدّم الصفوف، ولو على حساب الحق.
هذه الكتابة المفتقرة للصدق هي ما عبّر عنه الروائي الكبير جورج أورويل، بمعنى فكره النقدي للكتابة غير الصادقة، حين أكّد أن العمل الأدبي الذي يفتقد الصدق محكوم عليه بالموت؛ إذ إن الصدق في الكتابة ليس مجرد مسألة أخلاق، بل واجب فني أيضًا.
فالكاتب الذي يكتب للشهرة فقط، يتكلم فيما لا يعنيه، ويتبنّى ما لا يؤمن به، ويُساوم على المصداقية مقابل التصفيق. فتخرج كلماته متنافرة، بلا مركز أخلاقي، بلا روح تجمعها. تبدو الجملة متماسكة في ظاهرها، لكنها فارغة في جوهرها، كقلمٍ أجوف يخط في الهواء ولا يترك أثرًا.
وهذا هو النقيض تمامًا لما دعا إليه إرنست همنغواي في فلسفته الكتابية، حين شدّد — بمعنى قوله — على أن يكتب الكاتب بصدق عمّا يعرفه، وبأبسط طريقة ممكنة. فالكاتب المخلص لا يكتب إلا عن حقيقة وتجربة، خلافًا لـ«القلم الأجوف» الذي يتنقل بين الأفكار تبعًا لما يُرضي الجمهور.
ليست الكتابة حشدَ كلمات، بل خلقَ معنى. وليست الموهبة وحدها ما يمنح النص حياته، بل الصدق. لذلك لا تقع كلمة في جوف القلب إلا إذا كانت صادقة النبض، نقية الشعور. وهذا المعنى يلتقي مع روح ما عبّر عنه جبران خليل جبران حين رأى أن الشعر — في جوهره — أنفاس المعنى؛ فالمعنى هو الروح التي تُبقي النص حيًا، وبدونه لا يصبح إلا جُملاً مصفوفة لا قيمة لها. قد يُخدع القارئ لحظة، لكنه لا يُخدع طويلًا؛ فالكلمات تفضح أصحابها مع الوقت.
ولهذا ارتبطت الكتابة عند كبار الكتّاب بالمسؤولية قبل الجمال. فالكاتب الأصيل يدرك أن قلمه قوة لها تأثير وواجب، وأنه ليس مجرد صانع للعبارات البديعة، بل شاهد على عصره ومحفّز للوعي. وهذا ما لخصه جان بول سارتر في حديثه عن مسؤولية الكاتب، مؤكدًا — بمعنى فكره — أن الكتابة فعل يُغيّر العالم.
كما يتضح هذا الدور الأخلاقي بجلاء في موقف ألبير كامو من الكتابة، حين رفض أن يكون القلم أداة للسلطة أو الشهرة الزائفة، مؤكدًا — بروح قوله — أن الكاتب ليس خادمًا لمن يصنعون التاريخ، بل لمن يتحملون أعباءه.
فالكتابة الحقيقية إذن، فعل صدق ونبض روحي ومعنوي، لا مجرد حبر يملأ الورق. هي التزام بالحق والمسؤولية، وإلا كانت مجرد ضجيج…
ضجيج قلمٍ أجوف.
بقلم / صباح أحمد العمري






