المقالات

جدة.. حين تنقسم العائلة بين الأصفر والأخضر

اليوم، في مساءٍ تُضيئه أنوار الجولة الثامنة من دوري روشن السعودي، تعود جدة لتعيش نبضها الأصيل، نبضها الذي لا يشيخ مهما تغيّر الزمن: ديربي الاتحاد والأهلي. ليست مجرد مباراة كرة قدم، بل حكاية مدينةٍ كاملة، تنبض في أزقة البغدادية والسبيل والكندرة، حيث الكبار يتجادلون، والصغار يرفعون الأعلام، وأصوات المقاهي تختلط بنداءات المعلقين. منذ خمسينيات القرن الماضي، حين كانت جدة لا تزال تنام على رائحة البحر وتستيقظ على هدير الموج، تشكّل هذا التنافس كأقدم عاطفة رياضية في الحجاز. فالـاتحاد وُلد من روح الكفاح، والأهلي خرج من عباءة النخبة، ومنذ ذلك الوقت، لم تهدأ المدينة يومًا حين يتقابلان.

في جدة القديمة، لا وجود للحياد. في شارعٍ واحد، تجد على باب بيتٍ لافتة صفراء وسوداء كُتب عليها “العميد”، وعلى باب البيت المقابل راية خضراء كُتب عليها “الملكي”. داخل العائلة الواحدة، تنقسم الولاءات كما تنقسم القهوة بين سادة وسكر زيادة. الأب اتحادي، والابن أهلاوي، والأم تراقب بصمت، كأنها تخشى أن تُغضب أحد الفريقين. في كل ديربي، تشتعل الحوارات قبل صافرة الحكم بأيام. المقاهي تتحول إلى منابر، والأسواق إلى منصات رأي. في جدة، لا أحد يسأل: من سيلعب؟ بل من سينتصر؟ لأن كل شخص يشعر أنه جزء من المباراة؛ ولو لم يلمس الكرة في حياته.

ما يميز هذا الديربي عن سواه هو جمهوره، ففي جدة لا يكتفي الجمهور بالتشجيع، بل يصنع القصة بنفسه. في الحارات القديمة، يُزيّن الأطفال سياراتهم بالأعلام قبل ساعات من المباراة، وفي الأسواق تُباع الأوشحة كما تُباع الذكريات، وكل مشجع يرى في فريقه مرآة لطفولته وذاكرته وانتمائه. حتى في المجالس العائلية، يتحوّل النقاش من السياسة والاقتصاد إلى (مين أقوى؟) كأن جدة بأكملها تجلس على طاولة واحدة لا يتغير فيها سوى لون الانتماء. في لحظة، يشتعل الجدال، وقد يغضب الأخ من أخيه اليوم، ويضحك معه غدًا، لكن لا أحد ينسى النتيجة، لأن ديربي جدة لا يُنسى.

واليوم، حين يُطلق الحكم صافرة البداية، ستسكت جدة قليلًا لتسمع نفسها. في تلك اللحظة، سيعرف الجميع أن هذه المباراة ليست بين فريقين فقط، بل بين ذاكرتين، بين بحرين من العاطفة، بين الأسود والذهبي، والأخضر والأبيض. ومهما انتهت النتيجة، سيبقى الديربي وعدًا متجدّدًا، بأن كرة القدم ليست مجرد لعبة في جدة… بل هي أسلوب حياة. وفي صباح الغد، ستستيقظ المدينة على صوت المنتصر، وصمت الخاسر، إلى أن تدور العجلة من جديد، ويعود الحنين إلى الحارة، والجدال إلى المقهى، والديربي إلى القلب.

‫2 تعليقات

  1. جدة دائما خضراااااااااء الف مبروووك للملوك…
    رائع يابوابراهيم العنوان حكاية والمقال تفاصيله تذكرنا بالأحياء القديمة…

اترك رداً على Mohammed Al shehri إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى