المقالات

السَّوابقُ عوائق

يغفل الناس عن فاعلية السوابق وقدرتها على تقييد العقول وترسيخ التخلف وحراسة الجهل وإعاقة التفكير وإقامة الحدود وحراسة الخنادق وبناء السدود فتستبقي الفرد والمجتمع خاضعا للسوابق فلا شيء يُمسك بالإنسان كما يُمسك به ماضيه. فالتاريخ — في مستواه العميق — ليس سلسلة أحداثٍ ولّت، بل هو أجهزةٌ معرفية مزروعة في الوعي الجمعي، تتحكم في طرائق النظر، وتحديد مناطق الاهتمام وتوجيه الانتباه، وتحديد ما يُعد ممكنًا وما يُعد مستحيلًا. وهذه «السوابق» لا تبني المعرفة، بل تبني حدودها. ولا توسّع أفق الإنسان، بل تُقيم حوله أسوارًا لا يراها، فيعيش داخلها مطمئنًا إلى خطأٍ ورثه أو عادةٍ تلقّاها أو مسارٍ اجتماعيٍّ خضع له. وهذا المعنى يصدق على الحضارات والأمم والأفراد والعلماء معًا؛ فحيثما وُجد سبقٌ معرفي أو ثقافي أو تربوي، وُجد عائقٌ يُجمِّد النمو ويمنع القفز نحو المستقبل. فالحضارات العريقة يتحول التاريخ فيها إلى سجن موصد إن الحضارات القديمة ليست عبئًا لأنها حضارات، بل لأنها تتراكم فوق نفسها حتى تُصبح شواهد عظَمتها عقباتٍ أمام قدرتها على التغيّر. فالميراث الحضاري يُنتج قداسةً ضمنية تُحوِّل القديم إلى معيار، والجديد إلى تهديد. وقد عبّر الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون عن هذه الظاهرة حين قال: ((الإنسان أسيرُ المعتقدات التي صاغتْه، لا تلك التي يختارها)) إن الحضاران الكبرى تُتقن صناعة هذا الأسر؛ فكلما امتد تاريخ أمة، ازدادت صعوبة إعادة تشكيل رؤيتها للعالم، لأن السوابق الحضارية تُصبح شبكة تفسيرية ومعيارية تُقاس بها الأحداث دون وعي. لقد رأى هيغل أن ((التاريخ يسير بثقل)) بمعنى أن ما يتراكم في الماضي لا يزول بسهولة، وأن «روح الأمة» تُعيد إنتاج ذاتها ما لم تحدث قطيعة كبرى. وهذا هو جوهر فكرة «السَّوابق عوائق»؛ إذ لا يمكن لحضارةٍ عظيمة أن تجدد نفسها من دون أن تدرك طبيعة المأزق الذي تعيشه فماضيها يفرض عليها الجمود؛ فيتحول التراث إلى خنادق جاهزة تستبقي الأمم مأسورة بالسوابق
فالأمم تتمسك بتراثها لا لأنها تعرف قيمته، بل لأنها تقدسه فهي مأسورة به. فالتراث، كما يقول الفيلسوف إرنست رينان: ((ليس ما نتذكره فقط، بل ما ننسى أن نتذكره أيضًا)) فالهوية القومية تُدار بواسطة الذاكرة الانتقائية، وهذه الذاكرة تصنع حدودًا للخيال الفكري والمعرفي والسياسي والاجتماعي. ولهذا بقيت كثير من الشعوب تعيش في خنادق التخلف، لا لنقصٍ في الذكاء أو في الموارد، بل لأن السوابق الثقافية أغلقت أبواب المستقبل، وجعلت تغيير البنية العقلية للجماعة شيئًا مخيفا؛ فالأمة تتمحور حول ذاتها، وتقدس ماضيها، وتتحرك داخل دائرة مغلقة، فيصبح التقدمُ مستحيلًا لأنها تربط كل شرعية بما حدث سابقًا لا بما ينبغي أن يحدث.
إن الفرد هو ابنُ طفولته وبرمجته الأولى فإذا كانت الحضارات والأمم سجينة سوابقها، فالفرد كذلك أسيرُ التعليم الأول. فالإنسان لا يختار تصوّراته الأولى، بل يتبرمج بها تلقائيا ثم تُلقَّن له تلقينًا في الطفولة ثم تتصلّب في الدماغ كبُنى سلوكية وتوقعية، فيصير التحرر منها من أندر الأحداث. يقول ويليام جيمس: ((أعطني طفلًا حتى السابعة، وأنا أُعطيك الرجل))؛ فالسوابق التربوية تُصاغ كقوالب داخلية تشتغل تلقائيًا، فتصبح العوائق جزءًا من طريقة الرؤية ذاتها، لا مجرد أفكار قابلة للتعديل. وقد وصف بيير بورديو هذه القوة الخفية البُنى المتجسدة التي تحكم سلوك الفرد دون وعي منه، وتجعله يكرر العالم القديم بدل أن يبتكر عالمًا جديدًا. وهذا هو جوهر الفكرة: الإنسان لا يفكر بما يريد، بل بما تسمح له به السوابق التي امتلكته قبل أن يمتلك هو نفسه
حتى العلماء يتحول اكتشاف الأمس إلى عائق أمام اكتشاف الغد ربما لا توجد ساحة يتجلّى فيها مبدأ «السَّوابق عوائق» بوضوح مثل ساحة العلم. فالعلوم لا تتقدم بتراكم الحقائق فقط، بل بخلع «النموذج الإرشادي» القديم واستبداله بنموذج جديد، كما شرح توماس كون في كتابه العظيم بنية الثورات العلمية. فكل نظرية جديدة لا تُواجه الجهل، بل تُواجه «المعرفة» القائمة — أي تُواجه السَّوابق نفسها. ولهذا قال ماكس بلانك عبارته الشهيرة التي تُعد نصًا مؤسسًا في فهم مقاومة التغيير العلمي: ((الحقيقة العلمية الجديدة لا تنتصر بإقناع خصومها،
بل لأن أولئك الخصوم يموتون، ويأتي جيل جديد يعرفها منذ البداية)) وبهذا المعنى، فإن العلماء العظام يتحولون — من حيث لا يشعرون — إلى عقبات أمام العلم نفسه، لأن النموذج القديم الذي ابتكروه يصبح جزءًا من هويتهم العلمية، فيستحيل عليهم قبول نموذج يهدم ما صنعوه. وهذا يفسر لماذا احتاجت نظرية كوبرنيكوس وبرونو وغاليليو إلى قرون لتُقبل، ولماذا حوربت النظرية النسبية وميكانيكا الكم، ولماذا يُعاني اليوم كل اكتشاف جذري من المقاومة ذاتها فالسوابق أخطر من الأخطاء
لأن الخطأ يُصحَّح، أما السابق فـيُقدَّس. والسابق يُكتسب بلا وعي، فتدافع عنه النفس لأنه جزء من بنيتها. والسابق يصبح مرجعًا، فيُقاس عليه كل جديد، فإن لم يطابقه رُفض. إن السوابق للأمة مثل العادات للفرد وكما يقول الفيلسوف جون ستيوارت ميل:
((العادة هي السجن الأكثر إحكامًا)) فالعادة ليست سلوكًا متكررًا فقط، بل هي «تصور مسبق» يقيس به الإنسان العالم دون أن يشعر لذلك فإن الشجاعة الكبرى… هي فحص السَّوابق والتحرر من قيودها فالتحرر لا يعني رفض الماضي، بل فحصه.
ولا يعني هدم التراث، بل إعادة قراءته دون رهبةٍ منه.
ولا يعني الخروج من الحضارة، بل الخروج من قيودها غير المرئية. وقد عبّر نيتشه عن هذه الروح التحريرية في قوله: ((لا يمكن للمرء أن ينظر إلى الأفق ما لم يعلُ فوق جبلٍ من المبادئ التي تحطّمت)) فالسوابق لا تُكسَر إلا بلحظة وعي يُدرك فيها الإنسان أن القداسة التي أحاطت بالماضي ليست سوى نتاج تكرار طويل، وأن الحقيقة تحتاج إلى ذهن غير مقيَّد بسوابقه؛ فإذا كان الإنسان كائنًا تلقائيًا، والعقل يحتله الأسبق إليه، والطفولة تُبرمج الوعي، والحضارات تحرس ماضيها، والعلماء يحمون نماذجهم القديمة — فإن أول شرط للنهوض هو إدراك هذه الحقيقة:
أن السوابق ليست ذخيرةً للتقدم فقط، بل هي أيضًا أكبر عائقٍ أمامه.
ولا تقوم النهضة إلا حين تُفحص «المسلّمات الموروثة» بحياد موضوعي جريء ويُعاد تعليم العقل ليصبح قادرًا على استقبال الجديد، لا على رفضه باسم القديم. ولهذا قال الفيلسوف باولو فريري: ((التعليم الحقيقي هو فعل تحرير)) إن تحرير الوعي يبدأ من هذه الجملة الجوهرية:
السَّوابقُ عوائق.
وما لم يتحرر الإنسان من الأسبق إليه، فلن يتقدم خطوةً نحو ما ينبغي أن يكون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى