أدبنا العربي مليء بكنوز من لآلئ القول، وبيان من اللجين المذاب، في قصائد تحمل أرق المعاني وأبدع الخواطر، والشعر العربي كان كله فنًّا واحدًا هو الشعر الغنائي، الذي يحدو به الحادي، وتسير به الركبان، لتتناقله الألسنة وتحفظه الرواة ..فكان الملحنون يقومون بتنغيمه وتلحينه ويشدوا به الحداة ..فسهلوا اللغة ، وأوصلوا كنوزها لكل الناس، وحركوا خلجات القلوب بفيض المشاعر.
والمعاني الرقيقة التي يشدو بها الحداة لم تكن حكرًا على فئة دون فئة ، بل كان كل الناس يشاركون ويتذوقون الشعر الذي يحمل أخيلة ووصفًا عالي المذاق، راقي الخيال، لتهذيب الطباع وترقيق القلوب، ولم يمنع العلماء والأمراء والولاة والخلفاء وقار العلم أو أبهة الملك أن ينشدوا الشعر، أو يستمعوا إلى من يشدو به طربًا.وكانت مجالس الحكام والولاة أشبه بصالونات الأدب التي يتبارى فيها الأدباء والشعراء وتعقد بينهم المنافسات وتعطي للمحسن منهم أسمى الجوائز.
والإسلام عكس ما شوهه الكذابون، وما أحدثه المبطلون، الذين جردوه من كل خاطرة وعاطفة، بل ما زالوا به حتى جردوه من روحانياته العالية، فصاروا يصادرون المشاعر، ويقحمون أنفسهم حتى في خطرات النفوس وخلجات القلوب ، ليعلنوا صارخين هذا حرام وهذا حلال ..!! حتى صاروا يقومون بأنواع العبادات، وكأنها محض تمارين رياضية، يمارسها بعضهم بلا شعور ولا إحساس، ولا أدل على ذلك ما تجده في كثير منهم رغم كثرة عبادته، وطول صلواته، من أقسى الناس قلبًا وأشدهم قولا على الناس، بل وربما تراه حافظًا لكتاب الله، لكن لم يعش به قلبه ولا تذوقته نفسه، ولا وصل معناه إلى حنايا فؤاده ، وقد نتج عن هؤلاء ظهور كل أنواع التطرف والتشدد الذي أوصل طائفة منهم إلى استجازة قتل المسلمين بعد أن يقوم بصلاة ركعتين قضاء الحاجة .!!!
في حين أن الإسلام لم يصادر العاطفة البريئة، التي تتعانق فيها القلوب وتتلاقي بها الأرواح، والتي موطنها القلوب المنزهة عن الريبة …والتي تستثيرها تحليق شاعر، أو شدو حادٍ، أو براعة قارئ، “فالأرواح جنود مجندة ما تعارف ما ائتلف وما تناكر منها اختلف ”
فلم يأت الإسلام ليصادر العواطف، بل جاء لينظمها، والمشاعر ليضبطها، ويقننها بقانون الشرع لمن رام خروجًا بها من عالم القلوب والمشاعر إلى عالم الأجساد، ففرض الزواج، وحدد ضوابطه ووضع أسسه ليكون لقاء يتولى الله ميثاقه وتستحفظه ملائكته الأخيار ويشهده عباده الأطهار ..لكن إن ظل حبيس الفؤاد لم يبرح مكانه ، أو انطوت عليه الحنايا وتعذر لقاء الأبدان ..فليظل كما هو بلا حرج، لم تنظره عين، ولم تمسسه يد، ولم تشوهه الآثام .. فأقام الزواج على المودة والرحمة ، وجعله ميثاقًا غليظا جعل الضمانة الكبرى لبقائه واستمراره وجود هذه العاطفة بين الزوجين.
والحب إن قادت الأجساد موكبه ..إلى فراش من اللذات ينتحر
إن الإسلام بحق هو دين العاطفة ، والعاطفة ليست كما يفهمها أصحاب الفهم القاصر، والعقل الناقص أنها علاقة آثمة بين شاب وفتاة أو بين رجل وامرأة ، فالعاطفة الحقة أن يحيا القلب بالحب ، وتجيش به القلوب ، فتنبعث الخواطر ويحلق الخيال ، حيث يبدأ المسلم بالحب الأعظم وهو حب الله سبحانه ..ثم حب رسول صلى الله عليه وسلم ..ثم حب المؤمنين وتمني الخير لهم …حتى إن المسلم ليرق قلبه وتدمع عينه ويتعامل مع أخوانه المسلمين ..يوقر كبيرهم ويرحم صغيرهم ويعطي لعالمهم حقه …وينظر إلى العاصي منهم نظرة رحمة وشفقة ..وعندما يرى عناد المعاندين يبكي خوفًا عليهم من مصيرهم المذكور ….وكيف لا، ورسول الله جعل الحب شرطًا لكمال الإيمان فقال صلى الله عليه وسلم : ” لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم تحابوا ”
فبالحب يرتقي بالإنسان إلى درجات لم يكن ليبلغها بعمله ، ولا يصل إليها اجتهاده وهذا ما بشر به النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال ” أنت مع من أحببت”.
0


