المقالات

في رحاب جامعة نورة… المرأة والكتاب بين ذاكرة النقش وحاضر التمكين

تتجلى دلالات إقامة معرض الكتاب السنوي في جامعة الأميرة نورة، الجامعة النسائية الأكبر في العالم، بوصفه حدثًا يتجاوز كونه احتفاءً بالكتاب إلى كونه رسالة رمزية عن دور المرأة السعودية في المشهد الثقافي الراهن. فالطرح النسائي للمعرض يعكس أبعادًا حضارية ومعرفية عميقة، تؤكد أن المرأة لم تعد متلقية للمعرفة فحسب، بل شريكة في إنتاجها وصناعتها. وهو أيضًا شاهد حيّ على ما تتبوأه المرأة السعودية اليوم من مكانة مرموقة، بفضل ما تنعم به من دعم وتمكين من حكومتنا الرشيدة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود.

ومن هذا الحاضر المزدهر، يليق بنا أن نعود خطوة إلى الوراء لنستحضر جذور العلاقة بين المرأة والكتاب في التاريخ الإنساني، لنكتشف أن القلم لم يكن يومًا حكرًا على الرجال وحدهم، بل خطّت به النساء أيضًا نصوصًا خالدة، منقوشة على ألواح الطين وسفوح الجبال وكتب الحضارات القديمة. فمنذ حضارة الرافدين برزت الكاهنة والشاعرة في عهد الدولة الأكادية (2200-2400 ق.م) “أنخيدو أنّ”، التي تركت ترانيمها المسمارية شاهدًا على أن المرأة كانت قادرة على التعبير والتأليف قبل خمسة آلاف سنة تقريبًا. وفي أوغاريت وماري في سوريا القديمة، وقفت رسائل (شيبو) زوجة الملك زمري ليم آخر ملوك مملكة ماري في القرن 18 ق.م شاهدًا على العلاقة الوثيقة بين المرأة والتدوين.

ولم يكن حال الجزيرة العربية ببعيد عن هذا المشهد. فالنقوش الثمودية واللحيانية والنبطية والصفوية التي عُثر عليها تثبت أن المرأة العربية مارست التدوين، وخلّدت أسماءها بأحرف صريحة مثل “مي” التي جاء في نقش ثمودي مؤرخ إلى القرن الأول قبل الميلاد تقريبًا عُثر عليه شمال الحجر (مدائن صالح)، وجاء فيه: «هذا ما كتبته مي»، في دلالة لا تحتمل الشك على وعيها بالكتابة وتوظيفها لها.

«هذا ما كتبته مي» — نقش ثمودي من القرن الأول قبل الميلاد، شاهد على صوت أنثوي خطّه الحجر.

كما ظهرت أسماء مثل “ثنية” و”عاتكة” و”لبابة”، كتبن أشواقهن وذكرياتهن ودعواتهن على صخور الحجر ومدائن صالح وجبال العلا. كانت الكتابة بالنسبة لهن صوتًا شخصيًا لا يقل جرأة عن حضور الرجال، وربما كان أكثر صدقًا لأنه حمل في طياته مشاعر القلب وتطلعات الروح. ومع ذلك، فإن الأعراف والتقاليد كبّلت هذا الحضور، فبقيت مساهمات النساء أقل عددًا، لكنها أكثر فرادة ودلالة على عمق الدور الثقافي الذي لعبنه في صمت.

ثم جاء الإسلام ليمنح المرأة أفقًا جديدًا للمعرفة، فدخلت فضاء العلم الشرعي والفقهي، وأصبحت محدثة وراوية ومعلّمة. نقرأ في كتب التراجم عن زينب بنت أبي سلمة، ونفيسة بنت الحسن، وشهدة بنت الفرج الملقبة بفخر النساء، وهن نماذج لنساء حفظن الحديث وروينه، وتصدرن مجالس العلم، حتى أن الإمام البخاري وغيره رووا عنهن. لكن الطابع الشفهي غلب على إنتاجهن العلمي، فكان الرجال يكتبون عنهن وينقلون علمهن، ولم يصلنا من مصنفاتهن المباشرة إلا النزر اليسير.

“لم يكن العلم وقفًا على الرجال؛ فقد روت النساء الحديث وعلّمن الأجيال”.

أما في التراث العربي المتأخر، فقد ظل حضور المرأة المؤلفة غائبًا حتى القرن التاسع عشر، حين أصدرت الكاتبة اللبنانية زينب فواز كتابها الدر المنثور في طبقات ربات الخدور عام 1894م، لتفتح الباب واسعًا أمام مشاركة النساء في التأليف التاريخي والأدبي. ثم تتالت التجارب، فبرزت أسماء نسائية عربية أسهمت في صناعة الفكر والأدب، وصولًا إلى السعودية حيث خطّت المؤرخة الدكتورة مديحة درويش في ثمانينيات القرن الماضي كتابها تاريخ الدولة السعودية حتى الربع الأول من القرن العشرين، لتؤكد أن المرأة السعودية قادرة على أن تكون مؤرخة وموثقة وفاعلة في كتابة تاريخ بلادها.

إن قراءة هذا الإرث تكشف لنا أن العلاقة بين المرأة والكتاب لم تكن يومًا طارئة ولا دخيلة، وإنما هي امتداد لرحلة طويلة من الكفاح الثقافي والمعرفي. وما نشهده اليوم من زخم نسائي في معارض الكتب السعودية – حيث نجد الكاتبة والمؤلفة والناقدة والمترجمة – ما هو إلا ثمرة طبيعية لمسيرة حضارية ممتدة، اكتسبت زخماً متسارعاً بفضل رؤية المملكة 2030 التي جعلت الثقافة أحد محاورها الرئيسة، ومنحت المرأة مساحة غير مسبوقة للتعبير والإبداع.

إن معرض الكتاب في جامعة الأميرة نورة لا يُقرأ فقط من زاوية كونه فعالية ثقافية سنوية، بل من زاوية رمزيته: فأن تحتضنه جامعة مخصصة للنساء، فهذا يعني أن المرأة السعودية لم تعد على هامش صناعة الكتاب، بل أصبحت في صلبه، تنظيمًا، وتأليفًا، ونقدًا، وابتكارًا. وهو ما يجعل من هذا المعرض مناسبة مزدوجة: احتفاءً بالكتاب، واحتفاءً بالمرأة السعودية التي كتبت حاضرها وتخطط لمستقبلها.

“حين توقّع المرأة السعودية كتابها اليوم فهي لا تكتب لنفسها فقط، بل تسجل صفحة جديدة في كتاب الإنسانية”.

ولعل أجمل ما نختم به أن نقول: إن الكتاب حين يُوقّع بقلم امرأة سعودية اليوم، فهو لا يضيف صفحة جديدة في تاريخ الأدب فحسب، بل يكتب شهادة أخرى على أن رحلة المرأة مع الكتاب بدأت منذ آلاف السنين، وما زالت مستمرة، أكثر إشراقًا وأعمق أثرًا، في ظل وطن يؤمن أن التمكين الثقافي للمرأة هو تمكين للحضارة كلها

أ.د فتحية بنت حسين عقاب

جامعة الملك سعود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى