المقالات

مجمع البحرين .. وبين الصدفين: محاولة لاكتشاف أسرار الطبيعة وخفايا النفس

يعتبر م. كابتن محمد عباس من خلال كتابيه اللذين صدرا مؤخرًا بفارق زمني ثلاثة شهور فقط ، يعتبر رحالة ومستكشف وفيلسوف. وهو يغلف التضاريس الجغرافية التي يرتادها بغلاف فلسفي ذو طابع روحي مما يكسبها المزيد من التعمق ويتيح المجال أمام ممارسة التأمل (بشقيه الثابت والحركي) الذي يعتبره عنصر مهم في رحلات الهايكنج. والمملكة العربية السعودية تحتوي على العديد من المواقع الجبلية العميقة والغامضة التي يمكن أن تفهم من منظور جغرافي بأنها “بين الصدفين” أي بين جبلين عظيمين، بعضها له حضور رمزي وروحي عميق، والبعض الآخر مذهل جغرافيًا.
ويخاطب كتابي الكابتن م. محمد عباس: كتاب “مجمع البحرين” وكتاب “بين الصدفين” شريحة الشباب التي تشكل الأغلبية في المجتمع السعودي، بأسلوب علمي شيق ورصين وبجاذبية خاصة . ويندرج الكتابان تحت بند الكتب الفلسفية، وكتب الرحالة وأيضًا كتب الرياضة والسياحة. وليس بوسع القارئ أن يقرأ الكتاب الثاني دون أن يمر على الكتاب الأول، لأن الكتاب الثاني مكمل للكتاب الأول في الفكر والمضمون، وهو ما نلاحظه في صورة الغلاف في الكتابين، فالتنين الذي يتصدر غلاف الكتابين يعتبر رمزًا للطاقة الكامنة في الإنسان، وهو الصورة المجازية لقوة الحياة عندما تنبع من توازن تام بين القطبين. وركوب التنين يعني السيطرة على الطاقة وقيادتها بوعي نحو غايات سامية. وتتجلى الطبيعة وأسرارها في الكتابين في العديد من المواقع الجغرافية التي يذكرها المؤلف والتي قام بزيارتها من خلال رحلات “الهايكنج”. ويلفت المؤلف النظر إلى أهمية التأمل خلال ممارسة رياضة الهايكنج لأن هذه الرحلات تفقد أي أهمية لها بدون ممارسة التأمل خلال القيام بها.
والكتابان يعكسان التجربة الشخصية للمؤلف من خلال عمله عبر سنوات عدة كمدرب لرياضات “المارشيال آرتس” ورياضة “الهايكنج” اللتين أضفيتا بعدًا روحانيًا في فكره وفلسفته في الحياة، وسنلاحظ عند قراءة الكتابين ومن خلال العنوان، أنهما يقومان على أساس فكرة التوازن وممارسة التأمل والتفاعل مع الطبيعة، وهي العناصر الثلاثة التي يعتبرها المؤلف المنطلق الأساس في تكوين الشخصية المتآلفة مع الآخر، والمتصالحة مع نفسها، والمؤمنة بقضاء الله وقدره، والتي تدرك جيدًا الفرق بين الخير والشر، والصواب والخطأ، والحق والباطن.
ويجيب الكتابان، أحيانًا بطريق غير مباشر ومن خلال الآيات القرآنية والأدلة الملموسة والحقائق العلمية، عن العديد من الأسئلة التي تطرح بقوة في عصرنا هذا، مثل موائمة التقويم الزماني للأحداث والمناسبات، والجدلية : هل الأرض كروية أو مسطحة؟، وما الفرق بين الكيمياء والخيمياء، وما هو البرزخ الذي يأتي بين شيئين؟، وكيف يتصل الإنسان بالطبيعة أثناء التأمل؟ وكيف تتصل أنت بالطبيعة والكون؟، ولماذا يعتبر التأمل في الظلام في الكهوف أفضل أنواع التأمل؟ وأشياء كثيرة أخرى.
ويقترب كابتن عباس من الحقيقة من واقع تعمقه في فهم معاني القرآن الكريم، ومن واقع قراءته للقرآن الكريم ، تحديدًا سورتي الكهف والرحمن، فهو يرى أن ذي القرنين كان يحتاج إلى أن يساوي بين جهتين حتى يبني السد، وأي جهتين غير متكافئتين تؤدي إلى ضعف وعدم اتزان، وهو ما يوصله إلى الحقيقة أن عدم الاتزان في الجسد ينتج عنه ان عقل الإنسان لا يعمل بكفاءة عالية.
ويضفي المؤلف معان جميلة في تعريفه لبعض الأشياء فالجبال عنده أماكن التقاء الله بالأنبياء، ومواطن نزول الوحي، ومحطات للتحولات الكبرى، “فالجبل ليس مجرد تضاريس، بل هو صورة مصغرة للتدرج نحو الحقيقة، نحو العروج العقلي والروحي”. وهناك العديد من الجبال التي زارها المؤلف خلال رحلات الهايكنج التي قام بها مثل جبل دخنان، الذي يرتفع 1500 متر عن سطح البحر، وجبل إبراهيم في بجيلة في بني مالك، وجبل الفيل في العلا، وجبل عكران في تنومة، وجبل اللوز، وجبل الملائكة في بدر، وجبل شدا الأعلى الذي يقع في المخواة ويعتبر من أجمل جبال المملكة، وجبل عكران في تنومة، ، وجبل أحد بالمدينة المنورة، وجبل شمنصير في محافظة الكامل التابعة لمنطقة مكة المكرمة.
وتعود تسمية كابتن محمد عباس لكتابه الأول مجمع البحرين إلى قصة التقاء سيدنا موسى بسيدنا الخضر في منطقة مجمع البحرين لتلقي العلوم، وأثناء قيامه برحلة استكشافية ذهب لاسكتشاف هذا المكان المميز، فاكتشف هناك أكبر بحيرة في المملكة العربية السعودية في ماءها يوجد سمك بلطي، ويرفرف على سطحها أنواع وأشكال كثيرة وعجيبة من الطيور المحلية والمهاجرة ، فأطلق على المكان مجمع البحرين، وهو النقطة التي يلتقي فيها عرقا الماء (المكان). وهو يعتبر – استنادًا إلى هذه الرواية أن كل نقطة التقاء بين شيئين يمثل شيئًا عميقًا، أو فيه رسالة مميزة. وهذا مثال لالتقاء الأشياء.
وتحت فصل أماكن فيها العجب نجد أنفسنا أمام مستكشف للجغرافية السعودية وبعض تضاريسها، فوادي الديسة في تبوك يعتبر من أجمل ما رأته عيناه، ومن عجائب المكان أن الماء يجري في هذا الوادي طيلة العام، يكون باردًا في فصل الصيف، ودافئًا في فصل الشتاء. ووادي لجب في جيزان، وهو من أشهر وأجمل المواقع التي تجسد صورة بين الصدفين عبارة عن شق صخري عميق جدًا بين جبلين عملاقين، يبدو كأنه ممر إلى عالم آخر. هذا الوادي من أقرب الأمثلة الطبيعية الحية لتصور “الصدفين” القرآني. وهناك أيضًا وادي الزيته في تبوك، ووادي الديسة في تبوك أيضًا، ووادي الفوارة بالقرب من مكة المكرمة، ووادي عين الجمل بالباحة.
وزار المؤلف مغاير شعيب عليه السلام، وفيها متحف في منتهى الروعة في مدين. وهو يوضح بأن مدين تعرف باسم أصحاب الأيكة، حيث كان أهلها يعبدون أشجار الأيك.
وتوجد منازل مدينة مدين بالقرب من منازل قوم صالح عليه السلام في منطقة الحجر. وهو يصف بئر مدين بأن الماء الذي يوجد داخل هذا البئر لا ينقص ولا يزيد أبدًا.
وزار المؤلف أيضًا عيون موسى عليه السلام في مقنا ، ومن عجائها أن مياهها تنبع من الأسفل ولكنها تجري إلى أعلى ، وهي عيون مياه عذبة بجوار البحر. وقد زار الكابتن عباس أماكن أثرية أخرى كثيرة. ويتحدث في موضع آخر من الكتاب عن (الوعبة) أو مقلع طمية، التي يصفها بأنها من أجمل الأماكن التي يمكن زيارتها في المملكة، تقع على بعد 254 كم من مدينة الطائف وهي عبارة عن فوهة (حفرة عميقة)، في الأرض بقطر دائري يبلغ 3 كيلومترات وبعمق 380 مترًا، وهي الأكبر من نوعها في الشرق الأوسط.
وتتضح خبرة كابتن عباس في تطرقه للموضوعات ذات الصلة برياضة الهايكنج باعتباره مدرب محترف في هذه الرياضة حيث نجح في تسلق جبل كلمنجارو، ورفع العلمين السعودي والفلسطيني على قمة الجبل ، وأيضًا من خلال زيارته للعديد من الأماكن التاريخية والأثرية في الأردن.
في الكتاب الثاني (بين الصدفين) الذي يعتبر امتداد للكتاب الأول (مجمع البحرين) نجد أن المؤلف يركز على الخيمياء التي تشكل محور الكتاب. حيث نجد الخيمياء تتكرر ثلاث مرات في فصول الكتاب البالغة اثني عشرة فصلاً: الخيمياء والألواح الزمردية- الخيمياء والعلوم- الخيمياء والصوت، وفيه يؤكد المؤلف- كما في كتابه الأول- على ما تضمنه الكتاب من آراء أو تأملات إنما هو اجتهاد شخصي، يحتمل الصواب والخطأ. وهو يبدأ الكتاب بتعريف الخيمياء بالقول: “الخيمياء هي علم وفن قديم، يجمع بين الفلسفة والكيمياء والروحانية. والمؤلف في كتابه الثاني يعود للتأكيد على أهمية التوازن في الحياة، ففي اللوحة الزمردية “كما هو في الأعلى كذلك في الأسفل، وما هو في الأسفل كذلك في الأعلى”، وهي عبارة تشير إلى التوازن بين العوالم الروحية والمادية، فهي تعتبر الجسر بين العالم المادي والعالم الروحي، حيث تكشف عن ارتباط الكون والعالم الروحي، حيث تكشف عن ارتباط الكون بعضه ببعض، وكيف أن التوازن بين القوى الطبيعية هو ما يحفظ النظام الكوني. وتجسد لوحة “الخيمياء الهرمزية” المقولة: “من لم يفهم النار التي توحد الشمس بالقمرلن يصنع الذهب ولن يبعث النور من العتمة”. وقد أثرت تعاليم هذه الألواح تأثيرًا بالغًا في الفلسفة الغربية ، خاصة في “الميتافيزيقيا” (علم ما وراء الطبيعة”. ويشرح الكتاب كيف يساوي الإنسان بين الصدفين ليصل إلى مرحلة الاتزان والاتساق مع الكون الحقيقي ، وعندها يبلغ مقام ركوب التنين ليأخذه إلى هذا الكائن الأسطوري في جولة حول الأماكن الجميلة من جبال ووديان وكهوف ليصل في آخر الرحلة إلى حديقة الحكماءحيث يصبح في إمكانه أن يرى الطبيعي بعين الخيميائي الحكيم، ويدرك المعنى الحقيقي للجمال الذي لا تدركه الأبصار، وإنما القلوب.

د. إبراهيم فؤاد عباس

مؤرخ ومترجم وكاتب - فلسطين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى