منتدى القصة

نظرية الانسجام التكتيكي

قالت سوسن وهي تحدق في فنجانها الفارغ كما لو كانت تستدعي منه جوابًا ضائعًا:
– كل ما أحتاجه… شخص يفهمني فقط.

رفعت هالة حاجبيها وضحكت بضحكةٍ قصيرة كصفعة هواء:
– “فقط”؟ هذه الكلمة أخطر من كل الجُمل قبلها. كأنك تطلبين الكون في حقيبة يد.

ابتسمت سوسن بسخرية باردة وقالت:
– وما جدوى الحياة إذن، إن كانت كلها محاولات شرحٍ لا تُفهم؟

كان آدم صامتًا، يتتبع بعينيه البخار الصاعد من فنجانه كأنه يقرأ نصًا مكتوبًا في الهواء.
قال أخيرًا بصوتٍ هادئٍ كالماء:
– الفهم ليس امتلاكًا… إنه انسجام تكتيكي بين قلبين أمام هدفٍ واحد.

انفجرت هالة بالضحك:
– يا سلام! هل هذا تعريفٌ للحب أم خطة دفاعية؟

قال آدم وهو يبتسم دون أن يرفع عينيه عنها:
– في كليهما الخسارة مؤلمة، والنصر لا يدوم.

قالت سوسن وهي تميل للأمام:
– وأين أكون أنا في هذه الخطة؟ في الملعب أم على مقاعد الاحتياط؟

قال بجديةٍ غريبة:
– كظهيرٍ يحمي المسافات، لا يقترب من المرمى ولا يتركه يقترب منه.

تدخلت هالة وهي تتلاعب بمنديلها:
– وأنا؟ أرجو ألا أكون الحكم. لا أحب أن أطلق صافرة النهاية.

ردّ مبتسمًا:
– بل أنتِ الإيقاع، النبض الذي يُبقي المباراة ممكنة.

قالت سوسن وهي تضحك بنبرةٍ مشوبة بالمرارة:
– إيقاع؟ إذًا نحن أغنية حزينة تُعاد بلا جمهور.

رد آدم بهدوءٍ متعمّد:
– ربما، لكن الأغاني لا تحتاج جمهورًا لتكون صادقة، يكفي أن يُؤمن بها من يعزفها.

قالت هالة بتهكمٍ ذكي:
– ولكن من يعزف على من؟ في هذه الفرقة يبدو أن الجميع يريد أن يكون القائد.

رد آدم:
– القائد الحقيقي هو من يصغي. الصمت أحيانًا أعظم أشكال القيادة.

نظرت سوسن إليه طويلاً وقالت:
– أنت لا تفهم يا آدم، نحن لا نريد قائدًا ولا صمتًا، نريد أن يُسمعنا أحد دون أن يحاكمنا.

قال:
– الفهم ليس محاكمة، لكنه مرآة. المشكلة أننا نخاف النظر إليها لأننا نخشى رؤية ما نخفيه عن أنفسنا.

قالت هالة وهي تضع ساقًا فوق الأخرى:
– إذًا لا أحد يفهم أحدًا حقًا. كل ما نفعله أننا نتبادل المرايا، وكلٌّ يرى فيها صورته لا الآخر.

صمتت سوسن للحظة، ثم قالت وكأنها تقرأ اعترافًا من دفترٍ قديم:
– ربما لهذا السبب أحتاج من يفهمني… لأرى نفسي من زاويةٍ لا أملكها.

قال آدم وهو يحدق في عينيها مباشرة:
– لكن حين يفهمك تمامًا، سيكملك… وحين يكمّلك، سيفقدك. لأن الفهم الكامل يلغي المسافة، والمسافة هي ما يُبقي الشوق حيًا.

ضحكت هالة بخفةٍ وقالت:
– يا إلهي، أي فلسفةٍ عاطفية هذه؟ تريدنا أن نعيش في سوء فهمٍ منظم؟

قال:
– بالضبط، الانسجام التكتيكي… هو سوء فهمٍ منسّق بعناية.

سوسن تهمس وكأنها تتحدث لنفسها:
– إذًا نحن لا نبحث عن من يفهمنا، بل عن من يضللنا بطريقةٍ تشبهنا.

قال آدم بهدوءٍ مريب:
– نعم، عن من يخطئ فينا بصدق.

ارتجف الهواء من حولهم للحظةٍ غامضة.
نظرت هالة إلى ساعتها، ثم قالت وهي تنهض:
– يبدو أنكم تتحدثون عن الحب وكأنه خطأ متقن.

ابتسم آدم:
– أليس كذلك؟ لو كان صوابًا، لانتهى منذ البداية.

غادرت هالة تاركة ضحكتها تتلاشى في المقهى، وبقيت سوسن تنظر إلى البخار المتصاعد من فنجانها الأخير.
قالت:
– أخبرني يا آدم، هل تفهمني الآن؟

ابتسم وقال دون أن يرفع رأسه:
– أكثر مما ينبغي… ولهذا لن أقترب أكثر.

ربما لا نحتاج من يفهمنا، بل من يُبقي فينا مساحة للغموض،
فالفهم الكامل قفلٌ جميل… لكنه يُغلق باب الدهشة إلى الأبد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى