قبل قرابة ٢٥٠٠ عام أعتبر حكيم الأغريق أبيقور الشك مصدرًا للراحة ( الأتاراكسيا) لأنه يهدي من روع الإنسان الذي يخشى عذاب الآلهة ويرتجف من ذكر الموت ! لذا اصطاد أبيقور حدث الموت ببراعة وشكك في صعوبته وألمه فقال: كيف تخاف الموت وهو غير موجود وأنت حي ولن تشعر به بعد أن يأتي !!
ومازال الشك يعتمر في رأس الإنسان لسنين طويلة فجاء الشك الوجودي على هيئة أسئلة كبيرة مثل: هل للحياة معنى؟ ومن أين أتيت؟ وإلى أين سأذهب؟ ثم جاء الشك الديكارتي ليبحث عن الحقيقة بطريقة منهجية متخذًا من الفكر والذات المفكرة منطلقًا لإثبات باقي القضايا ! وجاء الشك الصوفي ليعيد النظر في مايرى الإنسان حوله من ماديات وليكسر ثقته في ” المعرفة الجاهزة” وقدرات العقل متجهًا نحو ” المعرفة الذوقية” بماتحويه من إشراق وكشف روحي يعمق التجربة الداخلية للمتصوفين!
وأخيرًا جاء الشك العلمي بمنهجه الصارم والتجريبي ليقرر أن كل معرفة قابلة للشك مالم تدعم بالتجريب والاختبار فكل فرضية قابلة للنسف والتغيير والتبديل بعد فحصها وتمحيصها بميزان العلم الدقيق!
كل هذه الشكوك تعاقبت على العقل البشري وازدهرت في لحظة ما كونها تبحث من خلال الشك عن الحقيقة ! وما أقسى وأصعب البحث عن الحقيقة! ولذلك لم تكن قصيدة ” ثورة الشك ” للأمير عبدالله الفيصل بدعًا من القصائد في هذا الإتجاه فهي قصيدة تسائل التناقضات التي امتلأ بها فؤاد الشاعر والتي تأرجحت بين مايشعر به في قلبه ومايسمعه بأذنه لتنتهي السردية بتصريح لايقبل مزيدًا من الصراحة وهو سؤال الشاعر عن صدق ظنونه فقال:
أجبني إذ سألتك هل صحيح ؟ حديث الناس خنت ؟ ألم تخني؟
ومع تعدد أنواع الشك وأهمية الشك في كشف اليقين إلا أن نوعًا غريبًا من الشك لايكثر الحديث عنه وهو ” الشك الشكي” والذي لايهدف لكشف الحقيقة بقدر ماهو أداة تنفي الحقيقة وتنتزع اليقين وتفترض استحالة المعرفة من الأساس ! هذا النوع من الشك يجمع سيئتين كبيرتين: أولهما أنتهاجه للشك بمايحمله الشك من حرقة وألم وتشتت وبعثرة وثانيهما أن هذا الشك بكل مايكتنزه من عبء لايقود لشيء سوى الشك في ذاته ! الشك لأجل الشك واستخدام الشك للشك!
وحينما نتأمل وندرس هذا النوع المزعج من الشك فإننا لن نستغرق وقتًا طويلًا في رصد أمثلة له في حياتنا الإجتماعية والعملية والعاطفية وذلك حينما يمسي الشك في كل هذه المواقف أجوفًا بلادليل ولاتجريب ولاإختبار بل إن وجود الأدلة التي تدحض هذا النوع من الشك لاتحمل أي قيمة لدى أتباع هذا الشك السقيم !
دعوني أختم بأبيقور كما بدأت به فالابيقورية تحب أن تقدم نوعًا فاخرًا من الشك يعدونه بمثابة المسكن لآلام الروح وندوب الكينونة .. يقول أبيقور :
” لاتقبل شيئًا يزرع الخوف في نفسك قبل أن تمتحنه! ” …. والسلام






