
بحس الشاعرة المرهف، وبنبوءتها الصادقة، علّقت في حسابها على “x” حين انبرى ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لمعالجة الأزمة السورية، فقالت: “يا رب لحظة كهذه لشعبنا ووطننا”، وقد كان، فها هو ولي العهد- الرجل الذي حمل همَّ الأمة العربية- يحمل مشكلة وطننا داخل قلبه وعقله، ويضمِّنها في أجندته، ويطرحها أمام الرئيس الأمريكي واعدًا بحلها.
ساعتها، اقتبست شاعرتنا منشورها السابق، وألحقت به هذه المقطوعة في مدح ولي العهد، والثناء على موقفه:
الناسُ والنيلُ والأرضُ التي تعِبتْ
تدعو لكَ اللهَ منذُ الأمسِ.. ما تعِبتْ!
والطيرُ والوحشُ والصحراءُ في وطني
ومَنْ بهم ضاقتِ الدنيا بما رحبتْ !
أكرِم بنُبلِك يا بنَ الأكرمينَ وهل
يُستغربُ الفضلُ من نفسٍ عليه رَبتْ
ما زلتُ أبحثُ عن معنىً يليقُ بما
أوليتناه…ولكنّ الحروفَ كبَت!
إنها روضة الحاج شاعرة النيلين، بنت”كسلا” البارة، لا تخلف وعد الجمال، إنْ وصفت أجادت، وأن عبّرت أوفت، وإن سردت بيّنت، وإن شرحت أوضحت، وإن مدحت ذكرت الممدوح بما فيه، تذكِّرنا قول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن شعر زهير بن أبي سلمى، حين أثنى عليه في مدحه قائلا: كان لا يمدح الرجل إلا يما فيه.
المقطوعة من أربعة أبيات، تجسدت فيها كل سمات التكثيف، وعناصر التركيز، فلو بسطتها الشاعرة لبلغت ثلاثين بيتا أو تزيد، ولكن ما يغني قليله، فلا حاجة لكثيره.
جاءت مقطوعة شاعرتنا مخاطبة ولي العهد، وشارحة أنّ كل مكونات الوطن السوداني فرِحت بهذا الخبر: الناس والطين والأرض والطير والصحراء والوحش…. كلهم سعدوا، وكلهم دعوا الله لك؛ لأنك أحسست بهم، تعبوا من الحرب والتشريد والتهجير والقتل والتنكيل، لكنهم ما تعبوا من الدعاء لك، فظلت أكفهم مرفوعة للخالق، يدعون لك نظير ما فعلت لهم، هنا مقارنة رائعة تميّز بها هذا البيت المكثف:
الناسُ والنيلُ والأرضُ التي تعِبتْ
تدعو لكَ اللهَ منذُ الأمسِ.. ما تعِبتْ!
تتناص شاعرتنا روضة مع القرآن الكريم في قوله تعالى: ( حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) و(وضاقت عليكم الأرض بما رحبت) التي وردت مرتين بصيغتين مختلفتين في سورة التوبة25، 118، حين قالت:
ومَنْ بهم ضاقتِ الدنيا بما رحبتْ !
كناية عن كثرتهم، فرغم رحابة الأرض واتساعها، لكنها ضاقت بهم، فجاءت شاعرتنا بكناية بديعة عن كثرة عدد من دعا للأمير.
تميزت المقطوعة باستخدام أسلوب التقديم والتأخير وذلك في قولها:
ومَنْ بهم ضاقتِ الدنيا بما رحبتْ !
فالترتيب الطبيعي:
ومن ضاقت بهم الدنيا
وأيضا في:
تدعو لكَ اللهَ منذُ الأمسِ
والترتيب الطبيعي:
تدعو الله لك.
لكنّ في ذلك اختصاصًا واهتمامًا بالمقدَّم.
جاءت المقطوعة على بحر البسيط الذي “يُبسط لديه الأمل” بتفعيلاته المزدوجة:
مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن
فكأني بشاعرتنا اختارته لترسل رسالة “أمل” للبلاد والعباد، والبسيط بحر رحب طويل، رقيق عذب، يتسع لحشد عدد كبير من الصور والمعاني، ويتسع لاحتواء مكنونات الشاعر، ويقدر على استيعاب معانيه، مهما كثرت.
يعتري الخبن بعض تفعيلاته أحيانا، والخبن هو حذف الثاني الساكن من “مستفعلن” فتصبح “متفعلن”، ومن “فاعلن” فتصبح “فعلن”، وهو من المسموح به عروضيا.
وكان للروي المقيد المتمثل في التاء الساكنة دور كبير في عكس المضمون، وبيان المقصود، وتوصيف الحال؛ فحال بلادنا سكن منذ ثلاث سنوات، وشعبنا مقيد في أسر الحرب والذل والتهجير.
برز أسلوب التعجب في أبهى صورِه، حين صار قادرا على نقل مشاعر الشاعرة والإنسانة روضة، وعبرها مشاعر السودانيين جميعا؛ حيث قالت:
أكرِم بنُبلِك يا بنَ الأكرمينَ
فتعجبت هنا من كرمه الذي طوقنا به، وفضله الذي أسبغه علينا، وأردفت ذلك بما يقاربه ويماثله حين أتت بالاستفهام الإنكاري في عجز البيت:
وهل يُستغربُ الفضلُ من نفسٍ عليه رَبتْ
فالإجابة: لا، لا يكون الفضل مستغربا ممن نشأ عليه.
ورغم كل معاني الامتنان التي بذلتها شاعرتنا، لكنها ترى أنها عاجزة عن أن تقول لولي العهد: شكرا، بما يستحقه، لأن حروفها “كَبَتْ”، ولم تعد قادرة على إيجاد معنى يليق بهذا الفضل، ويقارب هذا الكرم:
ما زلتُ أبحثُ عن معنىً يليقُ بما
أوليتناه…ولكنّ الحروفَ كبَت!
هذه وقفات سريعة مع مقطوعة مكتنزة بالجمال، لشاعرة بارعة القدرة، عن موضوع يستحق الحديث عنه، ويستوجب القول فيه.

