المقالات

كلنا فينا شيء من زوربا!

أعتقد أن أعظم ممثلي هوليوود مارلون براندو وأنتوني كوين وآل باتشينو، لكنني أضع في المرتبة الأولى أنتوني كوين، فأنت تشعر في رائعته فيلم “زوربا اليوناني” للكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس الذي شاهدناه أواسط الستينيات أنه لم يكن يمثل، وإنه كان هو بالفعل زوربا اليوناني، فقد تقمص الدور بشكل مذهل. زوربا هو الإنسان البسيط ، أحلامه قليلة ومتواضعة، وتناقضاته بسيطة، لا يهاب الأقدار، بل يتعايش معها ويهادنها، ليس من طبيعته اليأس أو الإقرار بالهزيمة، فهو يدرك جيدًا أن الأقوياء والأبطال أيضًا ينهزمون، وهو يقف دائمًا في صف الضعفاء، ويبعث الأمل في نفوس البائسين واليائسين. كلنا شعرنا بآلام ومباهج زوربا، وصيحاته وهو ينادي الحرية، ويحتضنها بمشاعره الدفيئة، وأعتبرت رقصته التي تعلم رقصها كافة أحرار العالم وأصبحت فولكلورًا يونانيًا بركان فجر مشاعر الأمل في نفوس البائسين، أما ضحكته فكانت صرخة مدوية ترفض الهزيمة والإنكسار. وكان زوربا قبل أي شيء وكل شيء عاشقًا للحياة.
قصة زوربا إنه بنى جسرًا هو وصديقه الشاب الغني الذي يطمح في الاستثمار في مناجم الفحم ، ولكن انهيار الجسر بعد بنائه مباشرة لم يسبب له أي مشاعر بالهزيمة أو الفشل أو الإحباط، وإنما كانت ردة فعله الرقص واضعًا كتفه على كتف صديقه الشاب فيما أخذا يطلقان الضحكات في الهواء.
زوربا أحيانًا تكذب مشاعره، ويزيف إحساسه، لكنه يفعل ذلك لدوافع إنسانية، وحتى لا يشعر بأنه يجرح مشاعر الآخر، وهو ما يتضح في علاقته بالعجوز بوبولينا المتصابية التي يتظاهر بأنه ما زال يعشقها ، ويحاول أن يوحي لها بأنها ما زالت جميلة يشتهيها الرجال !
ويعتبر مشهد رجم الأرملة (أيرين باباس) بالحجارة لاتهامها بالزنا مع صديقه الشاب بعد محاولة منع زوربا بكل أدوات إقناعه من رجمها، يعتبر قمة الدراما في الفيلم .
بعد أن شاهدت الفيلم خرجت من دار السينما وأنا أشعر بأنني أبدأ حياتي من جديد بعد أن استيقظ في دواخلي زوربا ، وهذه إحدى أهم ما تفعله بنا السينما – لكن ليس الأفلام الهابطة- كفن إبداعي يوقظ مشاعرنا الدفينة. وخرجت بالانطباع أن زوربا اليوناني هو أيضًا زوربا الفلسطيني الذي لا مكان ولا معنى للاستسلام في حياته، وليس في قاموس حياته معنى لليأس ، وأنه يرقص أيضًا كلما وجهت الأقدار ضربة مفاجئة له، لكن رقصته كنعانية اسمها “الدبكة” هي أيضًا تعني بضرب الأرض بقوة علامة التثبث والثبات.
ولعل من أكبر إبداعات الفيلم موسيقاه التصويرية التي وضعها موسيقار اليونان العظيم ميكوس ثيودوراكيس والتي عبرت عن مضمون الفيلم بشكل إعجازي، تمامًا مثلما عبرت الموسيقى التصويرية لفيلم العراب عن مضمون الفيلم. إنما مع الأسف الشديد لا أنتوني كوين ولا الموسيقى التصويرية للفيلم حازا على جائزة الأوسكار رغم ترشح أنتوني كوين لنيل الجائزة، وإنما فاز الفيلم بثلاثة جوائز أوسكار(جائزة أحسن ممثلة مساعدة، وجائزة أفضل تصوير سينمائي، وجائزة أفضل إخراج فني). ومع الأسف حتى نيكوس كازانتزاكيس لم يفز بجائزة نوبل في الأدب عام 1956 عندما رشح للجائزة ، وإنما فاز بها الأديب الإيطالي البير كامو بفارق صوت واحد. أما أروع ما في الفيلم أن كلا من المؤلف وواضع الموسيقى التصويرية للفيلم مؤيدان ومواليان للقضية الفلسطينية !.

د. إبراهيم فؤاد عباس

مؤرخ ومترجم وكاتب - فلسطين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى